رسالة إلى باطويل، أصغر شهيد للفكر التنويري

سعيد ناشيد

المرسل: كاتب هذا المقال.

المرسل إليه: عمر محمد باطويل، شاب يمني يبلغ من العمر 18 سنة، تم اغتياله قبل عدة أيام بتهمة الردة.

سلام الله عليك يا ولدي وأما بعد.

الآن، وفقط الآن، أستطيع التحديق في صورتك وأنت مضرج بالدماء وملقى بك على قارعة الطريق جثة هامدة. الآن، وفقط الآن، أستطيع النظر إلى وجهك الممزق بالرصاص كأنهم أرادوا ألا يتركوا لك أدنى فرصة للنجاة. نبغتَ مبكرا، نضجت صغيرا، وفاضت منك الحكمة فيضا غزيرا، وأنت في حداثة سنك بشّرتنا بأن لك مستقبل واعد في الانتظار، فكيف لي أن أنساك؟ وكيف لي أن أنسى آخر الكلمات التي دونتها على حائطك الفيسبوكي “إذا رأيت المساجد تبثّ الحقد والكراهية والعنصرية في نفوس البشر باسم الدين، فاعلم أنها ليست دورا لعبادة الربّ، وإنما دور لعبادة الكهنة”.

عمر باطويل
عمر 18 سنة:قتله مسلحون في عدن على خلفية ارائه الدينية

قبل أسبوع واحد عن اغتيالك في محافظة عدن جنوب اليمن، كنتَ قد طلبت مني صداقة على الفيسبوك. لا أخفي عنك بأني ترددتُ بحكم العادة، لا سيما وأن الأمر يتعلق بشاب في مقتبل العمر (18 ربيعا فقط)، ثم وجدتك تقدم نفسك بعبارة بليغة ومقتضبة “أرفض ثقافة القطيع”. بل وجدتك أكثر من ذلك، وجدتك شابا مهذبا بين ثنايا أقواله تجلت الحكمة اليمنية بأبهى مظاهرها وأسمى صورها. راهنتَ على الإيمان السعيد حين راهن الكثيرون على إشاعة التديّن البليد، راهنتَ على الإيمان الباسم حين راهن الكثيرون على إشاعة التديّن الجاهم، راهنتَ على محبة الله التي تليق بكبار النفوس حين راهن الكثيرون على الخوف من العذاب والذي لا يليق سوى بالعبيد، بشّرْتنا بدين الإنسان بديلا عن دين الكهان، بشرتنا بإسلام مفعم بالحيوية والحياة بدل إسلام ملطخ بثقافة الموت والممات. لا لن أنساك يا ولدي، ولن أنسى ما كتبته في إحدى إشراقاتك الجميلة “ترون الله في القبور وأراه في الزهور”.

قلتُ في نفسي هذا الولد يُرجى منه خير كثير. وفعلا فقد وجدتك تشبهني حتى في بعض الحساسية الثيولوجية.

في إحدى المرات كتبتَ مناجاة إلهية تقول فيها: يا “الله” اسمح لي اليوم بالحديث عنك.. فأنت الذي لا أقسم إلا بك لم أكن أعرفك حق المعرفة.. كنت خائفا منك.. فأولئك الذين ينتسبون إليك زورا قد أرعبوني من قربك.. صحيح أنني كنت أصلّي لك.. لكن ليس حبا فيك بل خوف منك. سامحني.. لم أعرفك إلا مؤخرا.. أحببتك جدا.. شعرتُ بالأنس بقربك… أتذكر ذلك اليوم الذي أخبرتك فيه عن سري الصغير.. وبعد ذلك ضحكتُ طويلا.. هههه ما أجملها من لحظة.. لكن يا رب لماذا يريدون أن نحبك بالغصب والقهر، وأن نجلد أنفسنا رغبة بما عندك.. سأحيا كريما بك.. ومستمتعا بالجنة التي خلقتها لي في الدنيا.. فقد سخرّت الكون لي لأحيا كريما.. شاكرا.. عارفا.. يا رب سأحبك إلى الأبد وحتى بعد الممات، فلم أعد خائفا بل مشتاق إلى لقائك.. وإلى ذلك اليوم تقبل خالص محبتي ومودتي يا خالقي”.

أن تكتب يا ولدي رسالة إلى خالقك بهذا التعبير الناعم العميق، وهذا الأسلوب الصادق الرشيق، فهذا دليل على أنك مشروع مصلح ديني كبير تم إجهاضه قبل أن يكتمل، لكنه دليل آخر أيضا على قرب الرجاء الذي كلنا نرقبه وجميعنا نرجوه. فلعل شدة العنف دليل على قرب الفرج، ولعل الليل في آخر الليل يكون أشد حلكة، ولعل الألم في آخر الألم يكون أشد وجعا، ولعل عنف النهايات يكون أشد رعبا، وفي كل الأحوال، أملنا الباقي في هذا المنحدر التراجعي الرهيب أن ندرك بأننا بلغنا خط الرجعة الأخير.

لقد قتلوك يا ولدي غيلة وغدرا، بعد أن أمسكتَ بالحلقة الأهم في الإصلاح الديني المرتقب، أدركتَ في سن مبكر أن تغيير نظرتنا إلى الخالق يعدّ مدخلا من مداخل إصلاح ثقافتنا الغارقة في أوحال الموت والكراهية والعنف. بل لعله المدخل الأهم. ذلك هو مضمون الرسالة التي كتبتها بخط يديك لخالقك، كتبتَها بقلب عاشق وإيمان صادق وشعور واثق.

أما الآن، نم قرير العين يا ولدي فإن الرسالة قد وصلت. ومسك الختام في منتهى الكلام ما قالته في حقك صديقة عزيزة علينا: جميعنا سنكبر، سنهرم، وسنبلغ أراذل العمر، لكنك ستبقى يا ولدي صغيرا كما فارقتنا، فطوبى لك.

بكل تأكيد ستبقى صغيرا يا ولدي، وستحمل لقب أصغر شهيد للفكر التنويري. ستحمل هذا اللقب الجليل حتى إشعار آخر. كن بخير، كن بألف خير.

كاتب مغربي

(165)

الأقسام: آراء