لَا بُدَّ مِنْ غَيْرِ قَابِلَةٍ لِلسُّقُوط!

كريم الحنكي

يَمُرُّ بِهَا الْيَوْمَ عامانِ، إلَّا قَليلا
وصَنْعَاءُ صَنْعَا
وشهرانِ مرّا بِهَا أمسِ من بعدِ عامٍ، وعامانِ من بعد شهرٍ غداً سيمُرَّان؛ والحربُ تسعَى
على قدمٍ مُشتراةٍ وساقٍ أجيرٍ، ولا تستطيعُ إليها سبيلا
فتسعى، على الرأسِ تسعى
إليها..
ولا تستطيعُ سوى أنْ تَزيدَ هياجاً، فتُرغي وتُزبِدُ كلَّ الخرابِ الذي تستطيعُ؛ ولا تستطيعُ لتلك العصيَّةِ وسعا
فتهدأُ شيئاً لكي تسترِدَّ ولو بعض أنفاسِها، وتجرِّب ما جرَّبَتْهُ ولم يُجْدِ؛ ثُمَّ تُجرِّبُ ما لم تُجرِّبْهُ من طُرُقٍ للتردِّي؛ ولكنَّه ليس يُجدي.. فتَقْعَى
تفتِّشُ في سُبُلٍ للسَّلامِ المُخاتلِ حتى ترى منفذاً صوبَها، وتُعِدَّ لها فوقَ ما تستطيعُ لكي تقرعَ البابَ قَرْعا
ولكنَّ صنعاءَ فاتنةٌ، في مصانِعِها المانِعاتِ النَّوائِفِ، لا تُسْتَطاعُ بِغَيرِ الهَوَى والشُّجونِ. وتحسبُها الأرضُ خرقاءَ، وهي صَنَاعٌ. وتضربُ أمثالَها
للغُواةِ الذين يرَونَ ولا يُبْصِرُونَ، الَّذين يجيئونَ من كُلِّ ثغرٍ قصِيٍّ عسى يبلغونَ الطريقَ المؤدي إليها.. فتُحْسِنُ صُنعا
وقد خَبَرَتْ كُلَّ حربٍ وكُلَّ سلامٍ بهِ تتهيَّأ ما بين حربينِ، عارفةً أنَّ في يدها الآن حرباً يكادُ الجِوارُ يزولُ وفي نفسِهِ حاجة كالشَّجَى من وقائعِها، وَهْيَ تشتدُّ وَقْعَا
إذِ اسْتَفْرَغَ الْجَهْدَ عامينِ، عامينِ إلا قليلا
ولم يُجْدِهِ الْجَهْدُ نفعا
فراح يعيد التصوُّرَ في ما أقام عليه مطامحَهُ في الهواءِ الذي شَحَّ عنه، وما شحَّ عن أنفِ فاتنةٍ في الجبالِ، وعن رئتيها، وعن ذاتِ تلكَ التي لا تزالُ هُنالكَ ترعَى
عهودَ الصَّبابة والعاشقينَ المُقيمينَ صَرْعَى
على الحُبِّ مُذْ عرفوها، وغيرِ المقيمينَ من ريبةٍ صرفتهُمُ عن جوهرِ العشقِ خفضاً ورفعا
وعامان إلّا قليلاً يمرَّان، عامان مكتملانِ -وثالثُ، رُبَّتما- يستفيقانِ، والحربُ مرعى
لكُلِّ غَرِيرٍ بهَا انْتَعلتْهُ دِيارٌ مُجاورةٌ، ولمَنْ نقضَ الْعَهْدَ واستمرأ الأمرَ، للناكثين الغواةِ وغير الغواةِ، لهذا الجوارِ الذي نَخَلَ الأرضَ صَقْعاً فصَقْعَا
وحارَ.. فدارَ بلا طائلٍ، واستدارَ على الطَّالبينَ لدى حربهِ -وخزائنهِ المُتخماتِ من اللؤمِ- صيداً يهونُ على كُلِّ من ليسَ يَرعَى
هَواها.. ومَنْ ضاق بالحُبِّ ذَرْعَا
فتهوي المعاني جميعاً لَدَيهِ؛ عدا مطمعٍ يطبعُ النفسَ طبعا
يُجيدُ الكُمونَ لها والتَّمَوُّهَ مُستخفياً في الأضاليلِ، بين الحشائشِ، أو خلفَ كُثبانِ بعضِ الْفَتاوَى، لينقضَّ في لحظةِ الْبَرْقِ لَمْعا
ومن خلفِهِ الْحَرْبُ راعدةٌ ومكابرةٌ، وَهْيَ تَسعَى.
وتسعى.
وتسعى.
ولا تستطيعُ..
فتهطِلُ في كُلِّ مُنْعَطَفٍ ثَمَّ مِلْءَ الدِّيارِ دَماً وَحِصَارا
ومِلْءَ الحصارِ انكسارا…
وَقَدْ طَالتِ الْحَرْبُ أكثرَ مما أرادَ لها الكونُ
لكنَّ رشوةَ هذا الجِوارِ رِشاءٌ لحاجاتِهِ، لا يُرَدْ
وهذا السقوطُ الذي شَرَّعتْهُ الخليقةُ، من أجلِ إسقاطِ صَنْعاءَ، لَيسَ يُحَدْ
فلا بُدَّ منها
وإن طالتِ الحربُ أكثرَ…
لَكِنَّها غير قابلةٍ للسقوطِ؛ وتضربُ للناسِ أمثالَها
لهذا الجوارِ، الذي يستشيطُ بأتباعِهِ، قَائلاً:
ما لَها..
وتلك المنيعةُ تمتدُّ أسوارُها بِالدِّيارِ، وأسرارُها في الْمَدارِ، رُؤَىً وَصَهيلا
وتزدادُ، تزدادُ مَنْعَا
كأنَّ الذي كان أوحى إلى النَّحْلِ والكَونِ أوحى لَها
بِأنْ تَتَوَسَّلَ أثقالَها
فَمَا أخْرَجَتْها.. ولا زلزَلَتْ بَعدُ زلزالَها
وليستْ تَصِيخُ سوى لِسَريرةِ عُشَّاقِها، ورُعاةِ عُهُودِ الْمَحَبَّةِ، سَمْعَا
فَصَنْعَاءُ: صَنْعَا.

(167)

الأقسام: آراء