أحمد الحبيشي
من المثير للدهشة أنّ (بعض) الذين يقدمون أنفسهم للرأي العام كمحاربين للفساد والظلم والإستبداد ، ومُدافعين عن الوطن والديمقراطية وحقوق الإنسان ، ما يزالون حتى النخاع مقيمين في كهوف الشمولية ، ويتاجرون ببيع (اللبن المغشوش) ، ويحاولون اتخاذ الديمقراطية ظهبرا لأفعالهم القائمة على التزوير والغش والتقلُّب الحلزوني والتماهي مع أعداء الحقيقة!!.
إنّهم يتكلمون في أحاديثهم ومقالاتهم و((مقايلهم)) عن الوطنية والديمقراطية وحرية الاختيار ومحاربة الفساد ، ويصل بعضهم إلى أعلى درجات الإيمان بالحرية القصوى حين يدافعون عن حقوق الإنسان والميثاق العالمي لحقوق الإنسان .. لكنهم يشمِّرون سواعدهم ويرفعون عقيرتهم ضد كل من يغايرهم في مواقفهم وأفكارهم وعقائدهم السياسية وممارساتهم الإنتهازية.
لا نفهم كيف يمكن أن يكون ديمقراطياً من يحاكم تحولات وتحديّات التاريخ الوطني الحديث لشعبنا بمعايير الشمولية وأدواتها.. فالديمقراطية هي أفق حر للتفكير النقدي ، ومجالٌ مفتوحٌ لحرية الاختيار، وحريةٌ قصوى في مراجعة الأفكار والتصورات والاستعدادات وتداول السياسات والخيارات.
ما من شك في أن القرن العشرين المنصرم شهد تحولات عاصفةٍ ومتسارعةٍ أسهمت في تغيير بُنية العالم، وإعادة صياغة العمليات الجارية في مختلف حقول العلم والفكر والسياسة والاقتصاد والعَلاقات الدولية، وما يترتب على ذلك من ضرورة إعادة تعريف العديد من المفاهيم المتعلقة بقيم الحق والعدالة والحرية والسلطة والثروة والمعرفة والأمن والسيادة.
في خضم هذه التحولات غير المسبوقة برزت العولمة كمنظومة جديدة من الإشكاليات والتناقضات والعمليات والتحديّات الحضارية ، لتطرح أمام العقل عدداً من الأسئلة التي تتطلب أجوبة لا تستطيع الأيديولوجية توفيرها، ولم يُعد بمقدور صيغ التفكير المطلقة والجاهزة معالجة معضلاتها.
لقد أضحت صورة العالم بالغة التعقيد.. فالعولمة تشكل اليوم منظومة عالمية جديدة من العمليات المركّبة، حيث تتداخل الأسواق المالية ويتسع الانتقال الفوري للمعلومات والمعرفة عبر تكنولوجيا الاتصالات التي تضغط على الزمان والمكان، بالتوازي مع نشوء نظام عالمي متناقض للإنتاج والتسويق بقيادة شركات عملاقة متعددة الجنسيات وعابرة الحدود والقارات، فيما يتم تسويق أجندة سياسية كونية تستند إلى الليبرالية الجديدة في المسائل المتعلقة بالدولة والاقتصاد وأسواق المال والثقافة.
يزيد من تعقيد صورة العالم الذي يتجه بخطى متسارعة نحو ذرى (العولمة المتوحِّشة) ، أنّه يعاني من بيئة طبيعية غير متوازنة تهدد قدرة كوكبنا الأرضي على توفير حياة آمنة للبشرية . كما تواجه جغرافيا هذا الكوكب تحديات وضغوط العمليات السياسية والاقتصادية الرامية إلى إعادة تنظيم الحيز والمساحة وإلغاء الحدود التي تحول دون حرية مرور رؤوس الأموال ومنتجات الثورة الصناعية الثالثة من خلال الصراع من أجل السيطرة على أعالي البحار والممرات الملاحية والمنافذ البحرية والمضائق المائية الحيوية.
ولا يخلو العقل من ضغوط التحولات التي تحدث في بُنية العالم وصورته تحت تأثير العولمة، إذ يبدو مهموماً بحراك الخيال العلمي الذي يسعى لاستشراف آفاق غير محسوبة لمجتمع إنساني عالمي يتجاوز الدولة والهوية!!
في سياق كهذا، يتراجع دور ومكانة الثقافة الشمولية، ويزداد مأزق مخرجاتها المُصابة بالوهن الذهني والجمود العقائدي والتفكير المعلّب ، بعد أن تحوّلت إلى لاوعيٍ مُعادٍ للمعرفة ، ومدافع عن مشاريع وأفكار بالية أفلست من أي رصيد أو إنجاز قابل للاستمرار.
إلى أين سيأخذنا هذا العالم المتغير بإيقاع متسارع يفضح عجز منظومة الأفكار الجامدة والسياسات الخائبة والمشاريع البالية أمام مرآة التحولات الجذرية؟.. ومتى نقوى على فهمه ومواجهة تحدياته؟
يقول ابن خلدون في مقدمته الشهيرة : ((إنّ أحوال العالم والأمم والناس وعوائدهم ونِحلهم لا تدوم على وتيرةٍ واحدة ومنهاج مستقر، إنّما هو الاختلاف على الأيام والأزمنة والانتقال من حالٍ إلى حال…. وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأبصار، فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول)).
لا يُعيب الإنسان، كما لا يُعيب الأحزاب والحركات السياسية والمفكرين والمثقفين والسياسيين ممارسة الحرية القصوى في النقد الموضوعي والنقد الذاتي ومراجعة الأفكار والسياسات وتجديد طرائق التفكير والعمل، والبحث عن أجوبة جديدة على الأسئلة غير المألوفة التي تطرحها الحياة وصولاً إلى اختيار وجهة التطور.
بعض العجزة من السياسيين الفاشلين وأنصاف المثقفين المحبطين ، يخلطون بين التغيُّر والتقلّب.. ويتجاهلون أنّ التغيُّر مسار تقدمي وحركة تتجاوز عوامل الاستلاب وتتقدم بثبات إلى ما وراء الأفق.. أما التقلب فهو عبارة عن دورة حلزونية في حلقة مفرغة لا تعرف التجاوز والتقدم.
أمثال هؤلاء يشبهون باعة (السلع المغشوشة) لأنهم لا يدركون ضرورة إعادة اكتشاف واقع بحاجةٍ إلى كشف، وضرورة إعادة صياغة السياسة وإعادة بناء الفكر السياسي التي يستحيل بدونها فهم الواقع والعالم المحيط به..
إنّهم يُجسدون ـ بحق ـ أحد أبرز مظاهر أزمة اللا عقل العاجز عن فهم تحولات التاريخ والعالم ، بما فيها التحديات العدوانية التي تهدِّد وحدة وأمن وسيادة وإستقلال الوطن في هذه الحقبة من مسار تطور عصرنا الراهن.
(182)