هل يمكن للمرض العقلي أن يجعلك “سوبرمان”؟

صحافة| المراسل نت:

على مدى عقود من الزمان ارتبطت الاضطرابات العقلية وبعض الأمراض النفسية في أذهان الناس بالمس الشيطاني، فتصور أن هناك قوة خارقة للطبيعة تسيطر على جسد المريض سواء من خلال الهلاوس السمعية والبصرية التي تشتت انتباهه أو من خلال انفصاله التام عن شخصيته بصفاتها الجسمانية المعروفة وظهور شخص آخر يحل في جسده.

وعلى الرغم من أنه تم وضع تعريفات علمية لتلك الأعراض في القرون الأخيرة، إلا أنها ظلت مرتبطة في الثقافات الشعبية بالجن والقوى الشيطانية، خاصةً وأن تلك الأمراض ارتبطت في أذهان الناس بالعنف فشاهدنا العديد من الأفلام السينمائية التي تُظهر مرضى الفصام واضطراب الهوية الفصامي بمظهر قتلة مهووسين، وهناك تاريخ حافل لبعض القتلة المتسلسلين يتقاطع مع الاضطرابات العقلية، ولكن هل يمكن فعلًا لبعض الاضطرابات العقلية أن تمنح المريض قوى خارقة للطبيعة فعلًا؟ وهل يتم دائمًا توجيه تلك القوى ناحية العنف؟

 

الاضطرابات العقلية ربما تؤثر على صفات الجسد البيولوجية

في فيلم Split -إنتاج عام 2016- يُحكى عن مريض باضطراب الهوية الفصامي «Multiple Personality disorder» وهو اضطراب عقلي يصحبه تعدد في الشخصيات، رأينا بطل الفيلم تم تشخيصه بأنه يمتلك حوالي 23 شخصية مختلفة أحدهما تؤمن أن لها قدرات جسدية خارقة كوحشٍ مفترس، وهي تلك الشخصية التي تجبره على إرتكاب الجرائم، فتزداد قدرته الجسدية سرعة من أجل افتراس ضحاياه قبل أن يأكلهم في النهاية، فهل تلك القدرات غير العادية المصاحبة لمرضى الاضطرابات العقلية حقيقية أم أن ما جاء بالفيلم هو محض خيال؟

في دراسة علمية نشرتها «النيويورك تايمز» عن التأثيرات الجسدية التي تصاحب مرض تعدد الشخصيات الفصامي تم الكشف عن Timmy (تيمي)، والذي يمثل شخصية واحدة من شخصيات عدة تسيطر على أحد مرضى تعدد الشخصيات، كان تيمي مثيرًا للاهتمام لأنه شخصية لا تعاني من رد فعل حساس تجاه عصير البرتقال، في حين أن الشخصيات الأخرى التي تستحوذ على هذا الجسد كان لديها رد فعل حساس تجاهه يتمثل في الحكة والبقع الحمراء التي تظهر جراء احتسائه.

فإن كان تيمي يشرب عصير البرتقال لا نجد أي رد فعل من الجسد بيولوجيًا تجاه ذلك، في حين أنه  إذا حضرت إحدى الشخصيات الأخرى أثناء احتساء البرتقال يبدأ رد الفعل الحساس في الظهور، والعكس صحيح فإن احتست إحدى الشخصيات البرتقال وحضر تيمي فإن الحساسية والحكة يختفيان من الجسد على الفور، مما أثار حيرة علماء علم النفس حينذاك لدراسة تلك الحالة على مرضى تعدد الشخصيات الآخرين، ليكتشفوا أن المواصفات البيولوجية للجسد الواحد قد تتغير من شخصية لأخرى.

فيقول دكتور فرانك بوتنام وهو طبيب نفسي في مختبر علم النفس التنموي بالمعهد الوطني للصحة: «كل حالة من الوعي يصحبها واقع بيولوجي مختلف للجسد، وهو ما يفعله مرضى تعدد الشخصيات؛ فيحافظون على كل حالة من الوعي بشكلٍ منفصل عن الأخرى مما يساعدهم على خلق صفات بيولوجية منفصلة أيضًا».

أجرى دكتور «بوتنام» أبحاثًا واسعة النطاق على المرضى الذين يعانون من تعدد الشخصيات الفصامي، وركز بحثه على فترة التبديل والتغيير من شخصية لأخرى والتغيرات الجسدية التي تطرأ على الشخص حينذاك، فيؤكد أن تلك الفترة تستغرق من ثوانٍ معدودة لدقائق أحيانًا يتغير خلالها معدل ضربات القلب والتنفس وغيرها من العلامات الفسيولوجية التي يتبعها نمط جديد لنموذج الشخصية الآخذة في الظهور. بعض التغييرات تكون ملفتة للنظر مثل تلك التي تحدث بعضلات الوجه ومدى نسبة التوتر بها، فطبقًا لـ«بوتنام» الأمر أشبه كما لو أن الشخص يلبس حينها وجهًا جديدًا.

 

هل المس الشيطاني والاضطرابات العقلية وجهان للعملة نفسها؟

هناك أكثر من اضطرابٍ عقلي ارتبط في الثقافة الشعبية بفكرة المس الشيطاني أو بوجود جن يتلبس المريض وهما (السكيزوفرينيا واضطراب الهوية الفصامي) وذلك نظرًا لما يميز تلك الاضطرابات خاصةً من مظاهر تعتبر من الماورائيات مثل الهلاوس السمعية والبصرية التي تصاحب مرضى الفصام (السكيزوفرينيا)، أو ظهور شخصياتٍ عدة بنبراتٍ صوتية مختلفة وأسلوب حياة وتعامل مختلف يجتمعون في جسدٍ واحد كالتي تظهر على مرضى اضطراب الهوية الفصامي.

وقد كان يتم التعامل مع المرضى على أنهم ملعونون، وكل ما يحتاجونه هو التخلص من تلك اللعنة، وبعض البلدان حتى اليوم تعالج تلك الاضطرابات العقلية عن طريق اللجوء للدجالين، وهو ما يجعل اكتشاف المريض لحقيقة مرضه أمرًا أكثر صعوبة.

 

ولكن هل الأشخاص الذين يزعمون أنهم مصابون بتلك اللعنة، أو أن ما يحركهم هو قوى شيطانية، وكل الأوهام التي تختلج نفوسهم لها علاقة بالعالم السفلي الذي لا ندركه، وكل الهلاوس و الأصوات التي يسمعونها هي أوامر شيطانية أو حتى ملائكية من عالمٍ آخر، هم أيضًا مرضى؟

في دراسة علمية أُجريت على مرضى الفصام (السكيزوفرينيا) من ثلاثة بلدان وثقافات مختلفة تناقش ما يسمعونه من أصوات وهلاوس سمعية وبصرية وتم نشرها في المجلة البريطانية لعلم النفس، تم الأشارة إلى الثقافة الشعبية العامة للمريض والدور الذي تلعبه في أوهامه؛ فأغلب الأصوات التي يسمعها مرضى الفصام في الولايات المُتحدة مثلًا كان لها علاقة بالتكنولوجيا وهوسهم بها؛ فيشعرون دائمًا بأنهم مراقبون من خلالها، وأنها كانت مختلفة عن تلك الأصوات التي يسمعها مرضى الفصام في الهند وغانا والتي كان لثقافتهم أيضًا دور فيها.

كانت النتيجة المباشرة للبحث هي أن الثقافة العامة للمجتمع المحيط بالمريض والتي يؤمن هو بها قد تُشكل أوهامه، فمثلًا إيمانه بالقوى الخارقة للطبيعة إلى جانب معتقداته الخاصة تؤثر على الطريقة التي يظهر بها الاضطراب النفسي. وهو ما يفسر لما يتجه مرضى الفصام المؤمنون بالقوى الشيطانية والعالم السفلي ناحية الإحساس باللعنة، أما هؤلاء الذين يشعرون أنهم مباركون في الدول المسلمة مثلا حيث تسود الثقافة الدينية والإيمان بمخلص آخر الزمان ، تكون ضلالاتهم منحصرة في ادعاء النبوة أو أنهم تجسيد للمهدي المنتظر.

 

عندما تسيطر «قوى الشر» على العقل البشري

يشدد علماء النفس على أن المرض النفسي والاضطراب العقلي في حد ذاته ليس عنيفًا ولا يؤدي حقًا إلى خلق قاتل متسلسل أو شخص عنيف، وأنه لا بد لبضعة أشياء أن تكون متوافرة لدى المريض حتى يستطيع الإقدام على هذا التصرف، فهناك آلاف المرضى الذين يعانون من الفصام (السكيزوفرينيا) واضطراب الهوية الفصامي، واضطراب الشخصية المعادية للمجتمع، واضطراب الشخصية الحدي والذين يعتبرون من أكثر الأمراض ارتباطًا بالعنف ومع ذلك لا يرتكبون فعلًا عنيفًا ويتلقون العلاجات المناسبة ويمارسون أعمالهم بشكلٍ طبيعي، فما الذي يفرق تلك الشخصية بأخرى مصابة بنفس المرض؟

 

«ابن سام».. خادم الشيطان

في مقال نشره موقع Psychology Today يحلل عقلية القتلة المتسلسلين تم الإشارة إلى أن مرضى الفصام على سبيل المثال لا يكون الفصام ذاته هو دافعهم للقتل، إلا أن اتجهت الهلاوس السمعية والبصرية التي يعاني منها المريض اتجاهًا عنيفًا. وفي تحليل لشخصية القاتل المتسلسل David Richard Berkowitz المعروف باسم Son Of Sam أو ابن سام، وهو الذي قام بترويع مدينة نيويورك لعامٍ كامل قتل خلاله ستة أشخاص وقام بالاعتداء على 7 آخرين تم الإشارة إلى أنه كان يعاني من الفصام -السكيزوفرينيا- حيث ادعى أنه كان يستمع إلى أصوات من كلب جاره تحثه على القتل، وأن هذا الكلب في الحقيقة هو الشيطان.

 

كان إبن سام شخصية مثيرة للجدل في سبعينيات القرن الماضي، توجت الصحافة العامة قصته، وتم نشر العديد من الخطابات بخط يده أثارت الرعب في قلوب العديد من سكان مدينة نيويورك تارة، وتارةً أخرى نشأ له معجبون، وهو الأمر الذي اهتم به الباحث «سكوت أ. بون» وهو أستاذ علم الاجتماع وعلم الإجرام في جامعة درو قام بعدة زيارات لابن سام في زنزانته، وقام بنشر مقطوعات من اعترافاته كشفت عما كان يدور بخلده أثناء ارتكابه لجرائمه؛ فيقول في إحداها: «كنتُ ذات مرة رجلًا شريرًا يحقق أمنيات الشيطان، وأعتقد أنني أتممتُ المُهمة».

يشير بيركويتز في اعترافاته إلى أن كلًا منا لديه جانب مظلم، وقد يكون اهتمام الناس بأخبار العنف والقتلة المتسلسلين نابعًا في الأساس من رغبة دفينة داخل كل شخص تحثه على إنزال غضبه أو إحباطه في شخصٍ آخر، ولكنهم يخفونها جيدًا؛ بالنسبة إليه كل نفسٍ بشرية بداخلها وحش كامن قد يخرج للعلن فقط إن هيئت له الظروف المناسبة. زعم بيركويتز أنه ينتمي لطائفة شيطانية، وأنه مدين بالطاعة لهارفي، هذا الكلب الشيطاني الذي يأمره بالقتل، وأنه حاول ذات مرة القضاء على هذا الكلب ليتخلص من لعنته، إلا أن قوى خارقة للطبيعة منعته عن تحقيق هدفه.

 

«مصاص دماء ساكرامنتو».. شرب دم ضحاياه وأكل أعضاءهم

ولد ريتشارد تشايس والمعروف بمصاص دماء ساكرامنتو عام 1950، عانى في طفولته من أب يقوم بضربه كلما أتيحت له الفرصة، وفي فترة المراهقة عانى من مشكلة جنسية متمثلة في عدم القدرة على الانتصاب، مما جعله غير قادر على الاستمتاع مع الإناث، وفي اعترافاته أشار إلى أنه لم يكن يستمتع بالجنس التقليدي، وإثارته كانت تأتي من استخدام العنف ورؤية الدماء؛ كل هذا جعل تشايس يلجأ لقتل الحيوانات كمتنفس يشبع هذا الجانب المظلم من نفسه.

 

تم تشخيصه بمرض الفصام (السكيزوفرينيا) ولكنه لم يسعَ لمعالجة نفسه، حتى اشتد المرض عليه، فأصبحت أوهامه وهلاوسه أكثر خطرًا؛ فشكلت ما سيصبح عليه. نما داخل تشايس وهم بأن النازيين يسعون خلفه، وقد دسوا له السُم الذي سيحول دماءه إلى بودرة، وهو الأمر الذي دفعه للبحث عن الدماء لتعويض دماءه المسممة؛ فبدأ بشرب دماء الحيوانات، كان يتباهى بأكله لأعضاء الأرانب الداخلية بعد أن يشرب دمهم، مدعيًا بأنه الأمر الوحيد الذي سيمنع قلبه من الانكماش قبل أن يختفي من جسده.

عانى مصاص دماء ساكرامنتو بعدها من حالة سيئة من الذهان، فشلت الأدوية في معالجته، يرجع الأطباء ذلك إلى تناوله المخدرات والتي أثرت على قدرة الأدوية العلاجية، لكنه لم يبدأ في استخدام دم البشر إلا في عام 1978، عن طريق اقتحام المنازل؛ فكانت جريمته الأولى في منزل ديفيد والين وزوجته تريز، والتي قام بإطلاق النار عليها، ومن ثم اغتصاب جسدها الميت، بقر بطنها ليشرب دماءها ويأكل الأعضاء الداخلية للجسد، وبعد أن انتهى من طقسه في شرب الدماء قام بالاستحمام بما تبقى منه، واضعًا براز الكلب في فم الضحية قبل أن يغادر المنزل، ليصبح هذا هو طقسه الخاص في القتل.

ألقت الشرطة القبض عليه بعد ارتكابه جريمته الثالثة والتي انتهت بمقتل ثلاثة أطفال إلى جانب سيدة تدعى إيفيلين ميروث، حيث ترك وراءه العديد من الدلائل التي أرشدت الشرطة عليه، وفي منزله وجدوا بقايا جسدية من ضحاياه؛ حُكم عليه بالإعدام في غرفة الغاز، وقبل أن يتم تنفيذ الحُكم، أنهى هو حياته بيديه عن طريق جرعة زائدة من مضادات الاكتئاب.

 

ساسة بوست

(212)

الأقسام: الاخبار,صحافة وترجمات,عاجل

Tags: ,