من كتاب “رحلة خلف القضبان”: العام الثاني من المعاناة (الحلقة العاشرة)

المراسل | كتاب

في العام 2016، انطلق الطالب “أمير الدين جحاف” من صنعاء قاصدا الوصول إلى جمهورية مصر العربية لإكمال دراسة الطب، لكن الرحلة لم تكتمل، فعلى حدود مدينة مأرب قامت قوات حكومة هادي باعتقاله تعسفا، وزجت به في المعتقلات لأكثر من عامين، بدون أي وجه حق، ولم يكن الوحيد الذي تعرض لهذه الجريمة، كما لم يكن الاعتقال التعسفي هو الجريمة الوحيدة التي تعرضوا لها.

عقب خروجه في صفقة تبادل، كتب جحاف كتاب “رحلة خلف القضبان” موثقا فيه شهادته عن ما رآه وعايشه وعانى منه داخل سجون “مأرب” طيلة تلك الفترة، وما رواه في هذا الكتاب لم يكن بما حواه من فضائح و فضائع مجرد انطباعات أو حتى سردا لتجربة شخصية منفصلة، بل مثل وثيقة تاريخية تدين سلطة كاملة كان نظام حكمها “الوحشية” ودستورها “السادية” واستمدت “شرعيتها” من كل ما يمثل انتهاكا صارخا لحقوق الإنسان.

ونظرا لأهميته كشهادة هي الأوفى تفاصيلًا عن ذلك المسرح الدموي الذي لم تستطع أضواء الإعلام حتى الآن أن تبدد العتمة التي تغلفه، تعيد صحيفة “المراسل” نشر هذا الكتاب ضمن صفحاتها على عدة حلقات.. وفيما يلي الحلقة العاشرة:

مر العام الأول

مرت أيام  حتى استكملت سنتي الأولى في سجن الأمن السياسي، تمكنت من الجلوس مع  رمزي الجنيد وعبدالله المحطوري وغيرهما وكانوا يحدثونني عن حكايات سجناء عديدين، ومنها قصة الشيخ محمد المندي المطري، الذي تم اعتقاله وهو راجع من الحج ومعه أسرته على متن سيارته، وأنه تعرض بمنفذ الوديعة للاختطاف بأسلوب همجي لأكثر وأستمر لأكثر من ثمانية شهور دون مراعاة لمن معه في السيارة، وتعرض للتعذيب والحرب النفسية، كانت حجتهم في سجنه وتعذيبه، أن أخاه يعمل مشرفاً في صنعاء مع أنصار الله، رغم علاقته الطيبة بقيادات كثيره من حزب الإصلاح (وخرج بصفقة تبادل أسرى حاله حال أي أسير). كانوا يحدثونني عما تعرضوا له من التعذيب من قبل أبو قعشة وحاشيته وعن ليلة القلم وما تعرضوا له في سجن آل شبوان المخفي بوادي عبيدة.

بعد شهر تقريباً من استلام نقودي، تم السماح لنا بالإرسال لأول مرة، عبر الشاوش الجندي الملثم (أبوعياش او أبو ثريا)، لشراء بعض الأغراض التي كانوا يسمحون بدخولها إلينا، وكان بمثابة فرحة لنا، كل من لديه نقود قام بسحبها وإرسال مقاضي وكانوا يأخذون من كل الف ريال أو خمسمائة ريال  مائة ريال مقابل خدمة وكنا نستغرب من قيمة السلع المبالغ بها جداً، وكان يختلف السعر كل مرة لكل صنف حتى أخبرنا الجندي أن السلطة المحلية وادارة أمن مارب غير قادرة على ضبط التلاعب بالأسعار من قبل التجار. فكان الشاوش يأتي يبحث عن الارساليات من أجل أن يجمع له قيمة القات، وكان عبدالله عاطف أول شخص أرسل في شراء كرتون (بسكويت أبو ولد) وقام بتوزيعه للناس جميعاً، أصيب معظم السجناء بالإسهال بعد تناول البسكويت وكأن مِعَدَنا ترفض أكلنا بعض الأشياء كالبسكويت والتمور والكيك وأشياء أخرى، بعد أن تكيفت بيولوجياً لمدة طويلة على وجبة السجن. وكنا في هذه الفترة نشعر بحرية نوعاً ما، لكن سرعان ما انقلبت الأمور رأساً على عقب لتعود كما كانت عليه، وفي حالات لأسوأ، وذلك بأمرنا بالنوم متى ما يريدون ويقومون بالتجول حول الغرف والانصات لمن يتكلم أو حتى يتحدث بصوت خافت يأمرونه بالخروج ويتلقى الضرب، وكان الجندي إذا رأى أحدا يتكلم مع أحد أومن يحاول بعد عودته من الحمام الذهاب إلى غرفة أخرى يتعرض للضرب بالعصا في يده وعلى رأسه.

بعد فترة توقف عن ضرب الرأس واستمر الضرب على اليد دون تمييز بين كبير وصغير وكأننا في مدرسة، حيث نقوم بإخراج أيدينا من الشباك المفضي إلى الصالة متى ما رغب أبو عياش في جلدها. أحياناً كان يقوم بإخراج بعض السجناء ويأمرهم بالزحف على بطونهم في ساحة مليئة بالحصى والحجار الصغيرة الخليطة بالتراب، ومن ثم يجري ضربهم بالعصا والكابل وصعقهم بالكهرباء حتى يدخلوا وأيديهم وركبهم ملطخة بالدماء. وفي يوم جلبوا عدداً كبيراً من سجناء (المحكمة) وسجناء (الصالح) وضموهم إلينا، في سجن الأمن السياسي، وكان من ضمنهم عبد الغني جحاف وخالد سلبة ومحمد سلبة، وبعد أيام قاموا بجلب سجين يعاني من حالة نفسية يدعى طارق سلبة تم سجنه بسبب لقبه. وبعد يومين تم إدخال فهد أبو عادل من أبناء محافظة صنعاء خولان، وقد فرقوا بينه وبين أخيه غلاب أبو عادل الذي كان في الجهة الأخرى، كان فهد أحد أبناء تجار قطع غيار السيارات تويوتا بصنعاء، وكان يعيش في تايلاند بعد أن أكمل دراسته في أمريكا تخصص تجارة عاد إلى اليمن وتزوج ولم يمر على عرسه أكثر من شهر ونصف حتى أصبح سجيناً معنا، كانوا قد اتفقوا مع أحد اصدقائهم على فتح فرع لمؤسستهم لبيع قطع الغيار في مارب، وعند نزولهم إلى مارب تم القبض عليهم بتهمة ان والدهما عضو مجلس نواب ولماذا هو يتواجد بصنعاء؟

ماهي الا أيام ودخل جنود برفقة المدعو (أبو أسامة) أحمد حنشل الذي كان مسؤولاً عن السجن طبعاً كان هو الوحيد ليس ملثماً، مر على جميع الزنازين وعند وصوله إلى زنزانتنا، تحدثنا إليه بالترتيب: هشام المداني قال له: أنا مغترب في السعودية وتم القبض عليَّ وأنا عائد إلى موطني لزيارة أولادي.

تم تلفيق تهمة لهشام المداني وايصالها إلى أقاربه بأنه قتل شخصاً ما وسيتم محاسبته ولم يكن يعرف هشام شيئاً عن تلك التهمة إلا بعد أن قال له أبو اسامة: أنت متهم بقضية قتل وقد قتلت شخصاً وسيتم البت في قضيتك في (البحث الجنائي).

هنالك كانت صدمة هشام كبيرة غير أنه ظن بأنه مجرد كلام وحرب نفسية، ولكن اتضح له بعد أن أتصل لعمه (والد زوجته) عبد القوي القيسي بعد فترة، فأكد له أنه فعلاً تم اتهامه بأنه قاتل، وقام عمه بتكليف محامٍ لقضيته، ولكن دون جدوى. كله كان استدراراً للنقود من قبل أسرته. والملفت أن عمه عبد القوي القيسي يعتبر من المقربين لقيادات حزب التجمع اليمني للإصلاح وعلى رأسهم المؤسس الشيخ عبد الله بن حسين الأحمر وقد تقلد مراكز هامة آخرها أنه كان مدير مكتب الشيخ صادق الأحمر، ولعل هشام كان أمله كبير، في أن يلعب عمه دوراً ما لدى هاشم الأحمر بوصفه قائداً عسكريا كبيراً وكذلك لدى قيادات الحزب سيما انه كان له أدوار دفاعية في 2011م مع الحزب وأولاد الأحمر إلا أن شيئاً من ذلك لم يحصل. ولم يخرج هشام إلا بعد أن ذاق مرارة التعذيب على مدى أكثر من عام ونصف وجرى خروجه شأنه شأن أي أسير عن طريق المبادلة!

ولم يكن هشام المداني أول شخص يتعرض للابتزاز والسرقات باختلاق قضية مفبركة ضده، فقد تم تكليف محامٍ أيضاً لغرض ابتزاز المختطف من الطريق علي الشرفي، وكذلك العديد ممن قاموا بإرسال نقود عن طريق اشخاص لم يكن يصل شيء إليهم، رغم أن أهاليهم كانوا يرسلون لهم الحوالات، من بينهم عمر العباهي من محافظة إب، الذي كان قد تعرض لسرقة حوالاته وأنا كذلك قام والدي بإرسال مبالغ مالية، ولم يصل شيء من مبالغ كبيرة، كان يرسلها طيلة فترة سجني وصلتني مرة واحدة فقط أربعون ألف. وعندما جاء دوري للحديث مع أبو اسامة حكيت له أنني طالب وتفاصيل قصتي.

قال لي: سنسمح لكم بالاتصال جميعاً بأهاليكم لتجهيز بديل وستخرجون نحن لا نريدكم لدينا.

وفي اليوم التالي أتى مرة أخرى في الصباح وقام بتسجيل اسمائنا كلنا للاتصال وتسجيل الرقم الذي سنتصل به، دخل حينها أحد الجنود الملثمين معه. وبدأ بالحديث معه توفيق رياش وأخبره بأننا نعاني من شحة في البطانيات والبرد قد بدأ، وإذا بأبو عياش يتجه نحوي ويقوم بضربي بسلسلة بها مفاتيح في يده على صدري، وفي الليل تم نقل العديد منا إلى الجهة المقابلة من السجن. وهناك تعرضت أنا ومن معي للضرب من قبل أبو عياش بالعصى، في انحاء متفرقة من أجسادنا، وكان السبب طلب أحد الزملاء في الزنزانة بطانية.

سنة وثلاثة أشهر.. الاتصال الأول

اليوم التالي بعد أن تم وضع 11 شخص في غرفة (3 أمتار× 2متر) ، وكانت 4 غرف في الجهة التي انتقلنا إليها اثنتان واسعتين واثنتان ضيقتين، وكنا في إحدى الضيقتين، وعند الساعة العاشرة صباحاً تقريباً تم مناداتي بعد أن نادوا توفيق رياش بالأمس اتصل بوالدته. كنت أنتظر تلك اللحظة لكي أسمع صوت أهلي بلهفة وشغف، خرجت إلى الباب الحديدي وتم ربط عيني بقطعة قماش، وبدأت بالمشي حتى وصلت غرفة، هناك تحدث معي أحدهم:

قال: ما أسمك؟

اجبته: أمير الدين عبد الملك جحاف

قال: بمن ستتصل؟

قلت له: بوالدي

قال وماذا ستقول له؟

أجبته: ما أملي علينا بالأمس

قال: تحدثه أنك بحاجة لبديل ولن تخرج من دون بديل، ولا تخبره في أي سجن أنت، تقول له أنك في مدينة مارب لدى الشرعية فقط.

ادخل الرقم وفتح الميكرفون وأنا مغمض العينين، كان يرن التلفون ونبضات قلبي تدق وتتشوق لسماع صوت والدي بعد سنة وثلاثة أشهر من غيابي عنه وعن جميع أفراد الأسرة

والدي: الو

أنا: الو نعم.. كيف أنت يا والدي؟

والدي: من معي؟ كان يبدو غير مصدق.

انا: أنا ولدك أمير الدين

والدي، بصوت عالي: أهلاً يا ولدي كيف حالك؟ وكيف هي صحتك؟ كيف أنت أخبرني؟

أنا: الحمد الله أنا بخير يا والدي، لا تقلق عليَّ أنا بخير ولدك كالجبل صامد، فقط طلبوا مني أن أخبرك أن تزيدوا من المتابعة لإخراجي ببديل في تبادل أسرى، ماذا صنعتم من أجلي؟؟

والدي: أجابني ببرود لا شيء حتى الآن لم نتمكن من شيء

أحسست أنه يخفي الكثير

انا: كيف والدتي وأخوتي؟

والدي: الحمد الله، كلهم بخير هم بصنعاء يدرسون في المدارس وأنا بحجة

تكلمت معه لدقائق وأنهى المكالمة.

عدت إلى زنزانتنا بالسجن وأنا أمشي وأتعرض للشمس وكأنني أتعرض لشيء غريب لم أكن أقدر نعمة هذه الشمس من قبل، دخلت غرفتي وأنا مبتهج لا أعرف لماذا؟ فقط لأني أطمأنت بأن أسرتي جميعاً بخير.  كان الأسبوعان من الاتصالات للجميع بمثابة فرح وسرور بعد سماع أصوات أهالينا والبعض صدم لبعض الأخبار غير السارة، مثل: ياسر المجهدي (مختطف من مدينة مارب) الذي أصيب والده بجلطة بعد سجنه بشهر وتوفي وأمه تبحث عنه في حالة مأساوية، وعبدالله بذال طفلٌ من الحديدة توفي والده أيضاً.

كان في ذلك المكان الجديد من السجن أشخاص جدد تعرفنا عليهم وعلى قصصهم،     منهم من نزل إلى مارب للانضمام إليهم، من بينهم رجل يدعى المستشار /محمد القاضي من أبناء محافظة عمران، أخبرنا بأنه مستشار تنمية مستدامة وعند دخول أبو أسامة كان يقول له :اجلس هنا بالسجن فانت هنا تعتبر قد انضممت  إلينا بالسجن، ودرهم أبو لحوم  يعمل في أمانة العاصمة  نزل للانضمام مكث فترة بسيطة في مارب وبعدها تم سجنه مباشرة عانى كثيراً ولم يقدموا له شيئاً حتى كاد أن يموت فقد أصيب بذبحة صدرية مكث يعاني منها فترة وبعدها أخرجوه، وعبدالله الصباحي خريج كلية حربية نزل للانضمام وتم سجنه لتسعة شهور معنا، و (أ.د ) من أبناء مديرية بني مطر نزل للانضمام  مع أخيه ولكن تم سجنهما لفتره طويلة، ورجل مسن من أبناء تهامة لقبه سكينة، نزل للانضمام كان اعرج يعاني من مشكلة في قدمه حيث قدمه مصابة بضمور، تم سجنه لفترة معنا.

أما عن مراسل قناة اليمن اليوم عبدالوهاب نمران الذي كان يغطي جبهات الجوف ومارب سابقاً مع قناة اليمن اليوم وهو من أبناء قبيلة مراد، فقد سجن لفترة بسيطة بالأمن السياسي وخرج.

فالذين نزلوا للانضمام للشرعية بعد أحداث 2 ديسمبر في صنعاء تم سجن الكثير منهم.

كبار السن

*أحمد المطري في الستينيات من عمره، ذهب للبحث عن عمل في مارب بعد توقف المرتبات وتم سجنه.

*علي أحمد العنسي رجل كبير في الستينيات من عمره، تاجر إطارات وبطاريات في صنعاء لديه عدة محلات وله معرض سيارات سابقاً بمدينة ذمار، تم القبض عليه برفقة زوجته وابنته التي تبلغ من العمر ثلاثة أشهر إسمها (تتلى علي العنسي) تم سجنهم لستة شهور، وبعدها قرروا إطلاقهم، وقالوا لن نسلم لك الجوازات إلا بعد ساعات، عاد وحيداً بعد ساعات حيث كان مسافراً لزيارة والدته بالسعودية، وتم سجنه من دونهم.

*فهد الطبيب من محافظة عمران في الستينيات من عمره، مغترب في السعودية يعمل في مزارع الدواجن تم سجنه بسبب لقبه وهو عائد لليمن.

*أحمد الخالدي رجل ستيني العمر من أبناء محافظة ذمار منطقة آنس يسكن بصنعاء، كان ذاهباً للمهرة للبحث عن رزقه وعند مروره بمارب تم إيداعه السجن، وهو المعيل الوحيد لأسرته، وليس لديه أولاد ذكور سوى بنات حسب كلامه.

*راشد دعكم من أبناء محافظة صعدة في الستينيات من عمره يعمل في مارب منذ سنين في قطع الأحجار وبيعها في الجبال الموجودة حول مارب تم سجنه بسجن المحكمة، ثم نقله إلى سجن الأمن السياسي تهمته أنه من صعدة، مكث بالسجن أكثر من سنة ونصف، كان معه عند سجنه مبلغ 3000 ريال سعودي و مبلغ من المال اليمني، طلب هذا المبلغ من أبو محمد المسؤول الأمني لسجن الأمن السياسي أعطاه جزءاً بسيطاً والجزء المتبقي أخبره بأنه عند نقله من سجن المحكمة إلى السياسي ضاعت نقوده، وكاد أن يجن الرجل وهو يقول: هذا المبلغ حصيلة أيام وليال انفقت خلالها  ضنى روحي، فكان يعده بأنهم سيعاقبون من سرق المبلغ وفي النهاية  خرج بعد فترة طويلة ولا نعلم هل أعطوه المبلغ أم لا؟ والمرجح أنه لم يحصل على  شيء.

*الحاج ناصر في السبعينيات من عمره، من محافظة صعدة، كان مصاباً بأمراض مزمنة، تحدثت عنه سابقاً

*علي العديني مختل عقلياً في الستينيات من عمره من محافظة إب، سأتحدث عنه لاحقاً

 

(77)

الأقسام: صحافة وترجمات