نبوءات علي جاحز: مشهدٌ خاف أن ينتهي

المراسل|يحيى اليازلي:

إن ديوان الشاعر علي جاحز “مشهد خاف أن ينتهي” مشحون بالنبوءات الشعرية.. وسأتناول في هذه القراءة قصيدته مشهد خاف أن ينتهي وهي اسم الكتاب.. وبعض مقاطع من قصائد من نفس الديوان… لأبين ما ذهبت اليه من أن له نبوءات شعرية حدثت كما رأى.

ودائما نقول المشهد السياسي المشهد الثقافي المشهد الرياضي… مجريات الحياة عبارة عن مشاهد..وحتى في القرآن حين نتأمله سنجد أنه ينقلنا خلال قصصه من مشهد لآخر. سجل عنوان مشهد خاف أن ينتهي صورا فنية حية بديعة للواقع الثوري في اليمن.. ومن خلاله رأينا مشاهد كثيرة تنقلك بإبداع لتستحضر بأم مخيلتك معاناة وثورة وانتصارات شعب رزح تحت طغيان السلطة لأربعة عقود ثم خاض في ثورة هي الأقوى من نوعها في التاريخ معارك ملحمة منذ عقدين وما تزال ضد نظام طاغ متصل بنظام طاغ أكبر ضد الشيطان الأكبر..

 

لقد كان لعلي جاحز مجلس يلتقي عنده القرآنيون منذ وقت مبكر مواز لمجريات أحداث مران، كان يأوي المجاهدون إلى مجلسه حاملين الملازم والزوامل. كان يفكر في الذهاب إلى الجبهة.. المسافة طويلة بينه وبين حزن الجبال الثكالى اللواتي فقدن أشجع الرجال في المعارك. يشرد بخياله يتموضع في المترس. ويصرخ بالشعار… أي صرخة بات يعشقها. إنه حلم لن يتوقف إلا في مكة والمدينة والقدس.. حيث اهداف المسيرة القرآنية.

 

حين يأوي الرفاق إلى مجلسي حاملين الدفاتر والأغنيات..

أرتدي رغبتي في الشرود..

أعبر الجسر بيني وبين البكاء..

أسكن الحلم..

والحلم تنهيدة..

وقفة في انتهاء المسير..

حين يعبد المجاهدين الطريق وتحقق اللجان الشعبية الأمن.. حين نطل على دولة العدل بعد طول اضطهاد…

عند ذلك سندرك أن لن تضيع أحلامنا ونحن عازمون على إسقاط النظام..

حين يطوي الطريق المسافة.. والخوف…

هل أضعنا الطريق

والمدى تحت إصرارنا ينتصر

فالمساء المسيطر لا ينتهي للخلود

وليكن

هل نسينا الخرائط مقعورة في الصباح القديم..

 

هل نسينا أسماءنا ومخطوطاتنا وتقعرنا لرموز النظام الفاسدة.. ومناهجه وغزوه الفكري النجدي منذ ثورة سبتمبر الستينيات التي اعتبرها البعض صبحا ضد النظام الملكي..

وليكن فلن يدوم ملك النظام القمعي …

 

والمتاهات قابلة للعبور

اذا صدق العابرون الحثيث

اسرجوا عزمهم للعراك

حينها يفتح الغيب باب السماء…

 

والمجال متسع للالتحاق بالثورة.. ضد نظام..

اذا اخلص الرجال الصمود…

أسرجوا عزمهم للعراك حينها يفتح الغيب باب السماء

عند ذلك سيأتي نصر الله …

يرسل الضوء صوب الخطى المستجيرة صوب الطريق..

 

هنا نبوءة تحققت بعد عشرين عاما وهي تحكي عن أن انصار الله سيسقطون النظام الظالم في اليمن ثم يشرعون في إسقاط النظام السعودي والخليجي العميل لأمريكا واسرائيل والذي يعد تواجده لحماية تلك الدول التي يعملون لصالحها. النبوءة التي يشير إليها قوله يرسل الضوء صوب الخطى المستجيرة صوب الطريق هي الطائرة المسيرة التي توصل إلى صناعتها اليوم التصنيع الحربي التابع لرجال الله..

 

منذ متى والخطيئة تغمسنا فالمآزق تلبسنا فوق خيبتنا..

تتحدث بأسلوب فلسفي وإيماني في ذات الوقت عما يشبه الكارما الكامنة في الوعي الإنساني الذي جاء بصيغة الجمع في قوله: “في ذواتنا النقية”.. إنها رهبة الكارما تطلع من مكامن الوعي كرهبان خشعت لمزمار داوود.. مصحوبة بهالة من الألم تحجب الأفق أو تغص الحلق.. من خيال هي أشبه برادع متخلق من صلصال الضمير يوخز رقائق بين حنايا الضلوع.

 

مذ متى..

انا لا أفهم جيدا قواعد النحو ولماذا تجيئ العبارة تارة بمذ وتارة بمنذ ولست هنا في مقام طلب معلومة.. يستطيع أي شخص الرد عليها مستعينا بقوقل لكنني فقط اتساءل لأجيب محاولا تفجير طاقات كامنة في لغة استفهام.. أفككها  بكيمياء الحدس.. أليست المعاني تنبثق من تفاعلات اللغة. مذ جاءت قصيرة متتابعة كأنفاس هذا الخائف المرتجف عند نهايات المشهد.

 

“مذ متى نرشف الكأس كأس السكوت المثلج يستقي خمرة من يد حاولت قتلنا

ننتشي ساعة

ونغادر أحزاننا ثم نصحوا على موجة من أنين”..

 

وأنا أقرأ الفقرة السابقة أحسست وضمن متواليات مشهد يرسمه وجدان الشاعر محذرا من مغبة ما قد يحدث إن تخاذلنا.. من دخول شخصية جديدة في دراما النص له جلد امرؤ القيس المتقرح منشدا اليوم خمر وغد أمر.. المشاهد المتسارعة في هذا المسرح، والتي تأتي تباعا كمفاجآت متوالية من الدهشة. في الحقيقة مشاهد كثيرة مدمجة في مشهد عنقودي واحد.. لن نستنصر روما ولا فرسا.. لسنا امرؤ القيس ولا سيف.. ملك شعبنا نستعيده بسواعدنا حالا.. “لا وقت للوقت” كما قال درويش.. وهذا الكأس المثلج الذي يقدمه لنا الطغاة سنهرقه..

 

“من زمان قريب”.. ما شأن الذال اختفت ياعلي جاحز.. هاه قلت بعدها

“قطعنا كل ذيل”.. هنا نبوءة بأن سيتم قطع دابر الاخوان في اليمن..

“منذ أن أفرط الأب في حذقه

خالف التيه

عند الدخول إلى المصيدة”…

أهمهم الآن بهذه العبارة الاعتراضية.. ما الذي عاد بالنون والذال ياعلي جاحز..

وأعود لم اقبل الهمهمة فأقول: هنا تتجلى النبوءة التي ستحدث بعد عشرين عاما أسمها المجلس السياسي الأعلى الذي شكلة الجنة الثورية معا عفاش.  فكان هذا المجلس فخ كبير تأخر بسببه الأنصار إذ حالفوا التيه عند الدخول إلى المصيدة (عند الدخول للعاصمة ) يا لها من نبوءة.

 

ما سبق مما ذكرنا من نبوءات شعرية وما سيأتي في مقالنا هاذا سببه أو مبعثه نقا الشاعر علي جاحز.

“ثم عض الهباء حين أبصر أشياءه قسمتها الذئاب الجياع على أسهم”..

ألا يحيلك هذا المشهد إلى الذاكرة أيام الحوار ومخرجات الحوار الذي أقيم في موفمبيك وأرادت دول العدوان فرضه تحت قوة الطيران..

“ثم عض الهباء”.. الأقاليم لب النبوءة في هذه الفقرة.. “حين أبصر أشلاءه قسمتها الذئاب الجياع على أسههم  ثم لم نختصم”.. ثم لم نرفض تلك الشراكة البائسة..

 

“ها المساء العجوز يصبغ لحيته بالسواد”.. حذف الذال وقال ها بالعانية لإيصال معنى ما وجيع.. وهل هذه عودة بالذاكرة إلى ما مشهد اغتيال الإمام يحيى حميد الدين في منطقة السواد بحزيز.. لعلها إشارة.. لا بل نبوءة لما لأحداث لاحقة ستقع في “السواد” وقد وقعت.

“يستعيد طفولته بالتهام النجوم التي أعلنت ضوءها”.. إنه يحكي حكاية نهم النظام ورغبته الجامحة في سفك دماء المؤمنين وامتصاص دماءهم وكلما قتل عددا كبيرا من الأبرياء كلما شعر  بالسعادة تدب في عروقه… مشهد مرعب يصور فيه الشاعر وحشية النظام وقتامة نفسة التي يحاول أن يغسلها بطهارة النجوم المؤمنين التي أعلنت ضوءها وصرخت في وجه الظلم.

“يستحم بأخطائنا”.. ماتزال الكارما حاضرة في دراما الأحداث.. والعدل الإلهي يأتي تباعا..

 

يستمر علي جاحز في تقديم النبوءات في مشاهد تراجيدية مسكونة بالأمل هي تتحدث عن البداية من حيث انتهت وتعزف سيمفونيات النهاية من حيث ابتدأت.

“أي إبارة تحتوي قصة

ضيعت أولا عندما سافرت لم تجد أخرا..

“أي أقصوصة”… يا ألهي..!!؛ فجأة صارت القصة أقصوصة… ما هذه المفاجآت التي يواليها علي جاحز في أفواج مشاهده الممعنة في الذهول..

“أي اقصوصة تستطيع التوغل في الوقت

ترسم الحزن في وجهها تصنع الحبكة الفاتنة”..

هذا المقطع الآنف ذكره أشعرني بولوجي في السماء مرة وفي الأرض مرة ثانية وفي البحر مرة ثالثة.. وجدتني أولا ادخل ثقب أوزون.. ثم وجدتني ثانيا أدخل سردابا أقتفي أثر مهدي.. ثم وجدتني ثالثا يبتلعني برمودا.. يا لها من فيزياء شعرية.. أو شعرية كمية.. إنها تراتيل جفرية.. متفجرة من وجدان قرآني بديع التكوين..

 

“أي اقصوصة تستطيع التوغل في الوقت

ترسم الحزن في وجهها تصنع الحبكة الفاتنة”..

“أي حبكة أقصوصة تلبس الدهشة الصاخبة تأخذ الوقت والحائرين على إثرها صوب النهاية.

ما هذا التناهي في الوجدان.. بل التناهي في التكنيك الشعري.. والدقة المتناهية في نظم المشاهد.. إنها فيزياء الشعر.. لقد أوصلنا علي جاحز إلى ما بعد النظرية النسبية وما بعد النظرية الكمية وأوجدنا وخلق المعاني مذهلة بديعة جوف قباب ذراتنا.. وتجلت النسبية الشعرية في مشهد خاف أن ينتهي بشكل تفوق على الجاذبية.. في قصيدة اغاني لعصر الذهول.. التي تتجلى في نيوتينية شعرية بتقنية فنية بديعة من الأغاني..

أغان لعصر الذهول مخاضات شعرية لولادات صخبة من النبوءات.. عصر الذهول. أو ظهور عصر المعجزات النورانية.. ستحكي كم من  الحقائق انكشفت وستنكشف متناغمة مع انبلاج مجرة المسيرة القرآنية من مظلوميات مران…

أغاني لعصر الذهول قصيدة تحكي قصص  معارك ملحمية حدثت دامية خرج من نهر شهدائها الزكية أبطال رضعوا معاني قصيدة الإمام علي في مدح همدان.. الأشتريون المنبثون من قصائد الهبل المسبحون المتوشحون سبحات الرزامي..

 

خمس أغان لعصر الذهول عزفتها ريشة علي جاحز منها ما يحكي أوضاع المجاهدين في سجون النظام..

“أقدم أغنية للنهار الجميل وللفجر والفجر معتقلا تؤبده في السجون شعاراتنا الواضحات”..

ومنها ما يحكي مشاهد الصمت التي كانت تعصر قلبه خارج أحداث الملاحم التي تضيئها النجوم المرصوصة عند سفح مران.. في مواجهة أرتال الظلام القادمة من جبل صهيون..

 

بعد أن غنى للظهور.. وأزفر النهدات.. خرج علي جاحز من غنوصية الحلم والشرود إلى بلورة الرؤى في مسرح يمضغ التائهين.. يستهله بمشد يفصح عن تلاشي المتاهات وينبئ باصطفاف البدايات من جديد مبدأ مبدأ. إنه مشهد المشاهد الذي يتجلى فيه شخص القائد ملوحا بعصاه. سنحكي تفاصيله في مقال اخر.

(56)

الأقسام: آراء,المراسل العام