مؤلِّفُ كتاب ” الاغتيالُ الاقتصادي للأُمَـم” الأَكْثَر مبيعاً في العالم جون بركنز: المدخل الأمريكي الى إيران في زمن الشاه (الحلقة الثانية عشرة)

المراسل|كتب:

يعد الكتاب الذي بين أيدينا ،كتاب ” الاغتيال الاقتصادي للأمم، اعترافات قرصان اقتصاد “، من الكتب الصادمة، الذي تنشره “صحيفة المراسل” في حلقات متسلسلة لأهميته، حيث يكشف لنا ” جون بركنز ” كاتب الكتاب من خلال سرده لمذكراته كقرصان اقتصاد دولي، حقيقة وظيفته التي تعد من أخطر واندر الوظائف في العالم، وكيف يقومون بتوريط الدول النامية بالديون العالية المستندة إلى تقديرات اقتصادية من قبل هؤلاء القراصنة مبالغ فيها، وذلك بغرض نهب وتدمير اقتصاد هذه الدول، بهدف الحاقها بالسياسة الأمريكية وجعلها تابعة لها وغير قادرة على الإفلات منها.

يعرف ” بريكنز ” في مقدمة كتابة قراصنة الاقتصاد Economic Hit Men أو اختصاراً بـ EHM الذي هو واحد منهم بأنهم خبراء محترفون ذو أجور مرتفعة، مهمتهم سلب ملايين الدولارات بالغش والخداع من دول عديدة في جميع انحاء العالم، يحولون الأموال من البنك الدولي وهيئة المعونة الأمريكية (USAID) وغيرها من هيئات المساعدة الدولية، ليصبوه في خزائن الشركات الكبرى وجيوب حفنة من العائلات الثرية التي تسيطر على الموارد الطبيعية للكرة الأرضية. مستخدمين في ذلك وسائل اصطناع التقارير المالية، وتزوير الانتخابات، والرشوة، والابتزاز، والجنس، والقتل. يلعبون لعبة قديمة قدم عهد الإمبراطوريات، لكنها تأخذ أبعاداً جديده ومخيفة في هذا الزمن ،، زمن العولمة.

قسم ” جون بركنز ” كتاب إلى أربعة أجزاء تحتوى على خمسة وثلاثون فصلاً إضافة إلى مقدمة الكتاب وتصدير وخاتمته.

في الفترة الواقعة بين عامي 1975 و1987 كثر ترددي على إيران.

بعض الأحيان كنت أتنقل بين أمريكا اللاتينية أو إندونيسيا وطهران وأعود في اليوم نفسه.

عرض “شاهنشاه” إيران (يعني حرفيا ملك الملوك، وهو لقبه الرسمي) موقفا مختلفا تماما من مواقف غيره من الدول الأخرى التي كنا نعمل بها.

وإيران دولة غنية بالبترول، ومثل المملكة العربية السعودية لا يمكن أن تقع تحت طائلة الديون عند تمويلها لقائمة طموحة من المشروعات التي ترغب في إنجازها، مع ذلك، اختلفت إيران تماما عن المملكة العربية السعودية لكونها ذات عدد سكان كبير وتحظى بمكانة متميزة بين دول الشرق الأوسط، وهي الدول المسلمة ولكنها بالطبع ليست عربية.

علاوة على ذلك فإنها بلد له تاريخ سياسي مضطرب سواء داخليا أو في علاقتها بالدول المجاورة لها.

بناء على ذلك، كان لنا مدخل مختلف تجاه إيران، حشدت واشنطن وشبكة رجال الأعمال قواتها لتحويل الشاه إلى رمز للتقدم.

وبمجهودات هائلة حاولنا أن نظهر للعالم أي مدى يعد شاه إيران صديقا قويا وديموقراطيا من أصدقاء الولايات المتحدة يشاركها اهتمامات ومصالح سياسية يمكن تحقيقها.

بغض النظر عن لقبه الذي يوحي بوضوح بعدم الديموقراطية أو تلك الحقيقة الأقل وضوحا بشأن الانقلاب المخطط له بتنسيق من رجال المخابرات الأمريكية ضد رئيس الوزراء المنتخب ديموقراطيا.

عقدت واشنطن وحلفاؤها الأوروبيون العزم على تقديم حكومة شاه إيران كبديل لتلك الحكومات الموجودة في العراق وليبيا والصين وكوريا وغيرهم من البلدان الأخرى التي كانت يظهر على سطحها تيار تحتي من رفض “الأمركة”.

كانت كل الظواهر تؤكد أن الشاه صديق تقدمي لكل الكادحين. ففي عام 1962 أمر بتقسيم قطاع كبير من الأراضي المملوكة لبعض الأفراد وتوزيعها على الفلاحين، وفي العام التالي قاد ثورته البيضاء، تلك الثورة التي شملت جدلا كبيرا للإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية.

ازدادت قوة مجموعة دول الأوبك في سبعينيات القرن العشرين وأصبح الشاه زعيما عالميا ذا نفوذ كبير.

في الوقت نفسه، طورت إيران جيشها وأصبح من أقوى الجيوش في الشرق الأوسط الإسلامي.

أسهمت شركة Main في مشروعات غطت معظم الدولة، بداية من المناطق السياحية بطول بحر قزوين في الشمال وحتى إمدادات القوات العسكرية السرية التي تشرف على مضيق هرمز في الجنوب.

مرة أخرى، كان تركيز أعمالنا ينصب على تقدير إمكانيات تلك المناطق ومن ثم تصميم الأنظمة الكهربائية وتوزيع القياسات التي ستمد البلد بكل الطاقة المطلوبة لدعم التنمية الصناعية والاقتصادية التي تحقق تلك التوقعات.

لقد زرت معظم مناطق إيران على فترات مختلفة. تتبعت طريق القوافل القديم عبر جبال الصحراء، من منطقة كرمان حتى بندر عباس، وطفت بأطلال إصطخر، وذلك القصر الأسطوري الذي سكنه الملوك في العهود الغابرة ويعد واحدا من عجائب الدنيا السبع القديمة. تجولت في معظم أهم المواقع وأشهرها مثل شيراز، وأصفهان، ومدينة الخيام الرائعة قرب إصطخر حيث توج الشاه.

في تلك الرحلات، تنامى داخلي حب عميق لهذه الأرض وشعبها متنوع الثقافات.

فعلى السطح تبدو إيران مثالا نموذجيا للتعاون بين المسيحيين والملسمين، مع ذلك، سرعان ما أدركت أن هذا المظهر الهادئ يخفي وراءه شعورا عميقا بالسخط.

ذات مساء في أواخر عام 1977، عدت إلى حجرتي في الفندق، ووجدت رسالة صغيرة مدفوعة بعنف تحت عقب الباب. صدمت عندما اكتشفت أنها موقعة باسم رجل يدعي (يمين). لم أكن قد التقيته من قبل، لكنهم وصفوه لي في بيان حكومي موجز بأنه مخرب متطرف. وبخط إنجليزي جميل كان يدعوني في رسالته للقائه في مطعم معين. ومع ذلك كان هناك تحذير : كان علي الذهاب بمفردي إذا كان يعنيني أن اكتشف جانبا من إيران لم يره معظم من هم (في وضعي).

تساءلت عما إذا كان (يمين) يعرف وضعي الحقيقي. كنت أدرك أنها مخاطرة كبيرة إلا أنني لم أستطع مقاومة إغراء لقاء مثل هذه الشخصية.

أنزلتني السيارة الأجرة أمام بوابة صغيرة في جدار مرتفع جدا لدرجة أنني لم أستطع رؤية البناء خلفه. رافقتني امرأة إيرانية جميلة ترتدي ثوبا أسود طويلا، وقادتني إلى ممر مضاء بمصابيح الزيت الزاهية المعلقة في سقف منخفض، ثم دخلنا إلى حجرة في نهاية الممر، مبهرة الإضاءة رأيت جدرانا مطعمة بالأحجار الكريمة وعرق اللؤلؤ. كان المطعم مضاءً بشموع بيضاء طويلة تبرز من ثريات برونزية.

اقترب مني رجل طويل ذو شعر أسود طويل، يرتدي بدلة بحرية زرقاء أنيقة وصافحني. قدم لي نفسه على أنه (يمين)، في لهجة توحي بأنه إيراني درس في مدارس على النظام الإنجليزي، وسرعان ما دهشت لأنني لم أر فيه مخربا متطرفا. وعبر عدة موائد يجلس عليها ثنائيات يأكلون – وجهني إلى ركن منحوت في الحائط شديد التميز، وأكد لي أننا نستطيع الحديث بحرية. انتابني شعور أن هذا المطعم مخصص للقاءات العشاق، ومن المحتمل جدا أن أكون أنا وهو االوحيدين تلك الليلة خارج هذا التصنيف.

كان (يمين) ودودا جدا. أثناء مناقشتنا، اتضح لي أنه يعرفني فقط كمستشار اقتصادي، وليس كشخص له دوافع خفية. شرح لي أنه استضافني بمفردي لأنه يعرف أنني عضو متطوع في فيالق السلام ولأنهم قالوا له إنني انتهز كل فرصة متاحة لمعرفة بلاده والاختلاط بشعبها.

قال: (أنت صغير السن جدا بالنسبة لمعظم العاملين في وظيفتك، ولديك اهتمام حقيقي بتاريخنا ومشاكلنا الحالية. أنت تمثل لنا أملاً).

بالإضافة للمكان الذي نجلس فيه ومظهر مضيفي والحضور والآخرين في المطعم منحني هذا الحوار درجة معينة من الارتياح. كنت قد اعتدت على تودد الناس لي، مثل رازي في جاوا، وفيدل في بنما، وكنت أتقبل هذا التودد كمجاملة وفرصة طيبة. وكنت أعرف أنني أختلف عن الأمريكيين الآخرين لأنني في االحقيقة أفتتن بالأماكن التي أزورها. اكتشفت أنه سرعان ما سيتعامل الناس معك بدفء وود إذا فتحت عينيك وأذنيك وقلبك لثقافتهم.

سألني يمين إن كنت أعرف شيئا عن مشروع استصلاح الصحراء، فإن الشاه يعتقد أن صحارينا كانت ذات يوم أراض منبسطة خصيبة وغابات مورقة. على الأقل هذا ما يدعيه. طبقا لهذه النظرية، زحفت في عهد االإسكندر الأكبر جيوش جرارة عبر هذه الأراضي، وسافرت ومعها ملايين الأغنام والماشية. أتت الحيوانات على كل عشب الأرض ونباتها. تسبب اختفاء هذه النباتات في قحط الأرض وجدبها وفي النهاية تحولت المنطقة بأكملها إلى صحراء. والآن كل ما علينا فعله (هكذا يقول الشاه) هو أن نزرع ملايين ملايين الأشجار، وبعد هذه النقلة السريعة ستعود الأمطار وتزهر الصحراء مرة أخرى.

(بالطبع، في هذه العملية ستنفق ملايين الدولارات) وابتسم بطريقة متعالية وأكمل: (شركات مثل شركتكم ستحصد أرباحا هائلة).

-أعتقد أنك لا تؤمن بهذه النظرية.

– الصحراء رمز. تحويلها إلى أرض خضراء أمر أبعد كثيرا من مجرد الزراعة.

أحاطنا أكثر من نادل يحملون أصنافا من الأطعمة الإيرانية الشهية، خيرني (يمين) بينها ثم اختار بعضا من الأصناف المختلفة. ثم عاد لتكمله الحوار معي.

– سؤال لك يا مستر بيركنز، إذا سمحت لي أن أتجرأ وأسألك. ما الذي دمر ثقافات مواطنيكم الأصليين، الهنود؟

أجبته أنني أرى أن ذلك كان نتيجة أسباب عديدة بما فيها الجشع وتفوق الأسلحة…

-نعم. هذا صحيح. كل هذه العوامل مجتمعة معا. لكن أليس تخريب البيئة هو العامل الأشد تأثيرا بما سواه؟

ثم أخذ يشرح لي أن هلاك الغابات والحيوانات، وانتقال البشر إلى نمط حياة مختلف عن الطبيعة، هو أساس سقوط الحضارات.

قال: (أرايت؟ إنه الأمر نفسه هنا. فالصحراء هي البيئة الطبيعية لنا. ومشروع استصلاح الصحراء لا يهدد بأقل من تخريب بيئتنا الطبيعية بأكملها. كيف نسمح بحدوث هذا؟).

قلت له إنه حسب فهمي للأمور فقد أتت فكرة هذا المشروع برمتها من الشعب نفسه. أجابني بضحكة ساخرة قائلا إن الفكرة غرستها حكومة الولايات المتحدة الأمريكية في عقل الشاه، والشاه مجرد دمية في يدها.

قال يمين: (الفارس الحق لا يسمح إطلاقا بمثل هذه الأمور) ثم استفاض في خطبة طويلة عن العلاقة بين شعبه البدوي والصحراء. مؤكدا على أن كثيرا من الإيرانيين والمتمدينين يقضون عطلاتهم في الصحراء. فيقيمون خياما كبيرة تسع عائلة كاملة ويقضون أسبوعا أو أكثر هناك.

(شعبنا جزء من الصحراء. الشعب الذي يدعي الشاه أنه يحكمه بتلك اليد الحديدية ليس فقط جزءا من الصحراء، بل إنه الصحراء ذاتها).

بعد ذلك حكي لي قصصا عن خبراته الشخصية في الصحراء. عند نهاية المساء، رافقني إلى الباب الصغير في الحائط الكبير. كانت السيارة الأجرة بنتظاري في الشارع. صافحني يمين وعبر عن تقديره للوقت الذي قضيته معه. ذكر مرة أخرى سني الصغير وتفتحي وحقيقة أن شغلي لمثل هذه الوظيفة يمنحه الأمل في المستقبل.

استمر يقول وهو ممسك بيدي بين يديه: (سعدت بهذ الوقت الذي قضيته معك، وسأطلب منك معروفا آخر فقط. لا أطلب هذه الأشياء ببساطة، إنما أفعل ذلك فقط لأني أعرف أنه سيكون له معناه لديك بعد الوقت الذي قضيناه معا هذه الليلة، وستربح الكثير من وراء ذلك).

– ما الذي يمكن أن أفعله من أجلك؟

– أحب أن أقدمك إلى صديق عزيز من أصدقائي، رجل بمقدوره أن يخبرك الكثير عن ملكنا، شاهنشاه إيران. قد يصدمك، لكني أؤكد لك أن ذلك اللقاء يستحق وقتك.

(18)

الأقسام: المراسل السياسي,صحافة وترجمات