سلسلة المؤامرات على البنك المركزي اليمني: الأطراف التي تقف خلف المؤامرة وأهدافها

المراسل|خاص:

التاسع عشر من سبتمبر 2016م نقطة سوداء في تاريخ البنك المركزي والاقتصاد اليمني ككل، ففي هذا اليوم صدرت توجيهات قادة العدوان من الرياض وأبو ظبي لمرتزقتهم بنقل وظائف البنك المركزي اليمني من مركزه الرئيس في العاصمة صنعاء، إلى مدينة عدن الخاضعة للاحتلال والمحكومة بالفوضى والجماعات المتطرفة متعددة الولاءات للخارج، ليشكل القرار بداية الانهيار والانزلاق نحو المجهول.

يعد البنك المركزي والعملة اليمنية في طليعة المؤسسات والرموز السيادية اليمنية التي سعت السعودية والإمارات لاستهدافهما، ليتسنى لهما النيل من الاقتصاد اليمني والعبث به، والسيطرة على ثرواته ومواقعه الاقتصادية والجغرافية.

لم يكن للفار هادي وحكومة المرتزقة من مبرر لنقل وظائف البنك المركزي، خصوصاً أنه ظل يؤدي مهامه بحياد مطلق ووفقاً لما هو متاح، وفي مقدمة تلك المهام صرف الرواتب لكل موظفي الجمهورية اليمنية بدون تمييز بين محافظة وأخرى، والسيطرة على السوق المصرفية، والحفاظ على استقرار أسعار الصرف، والاستمرار في تغطية الاعتمادات المستندية للاستيراد، وهو ما لم يرق لدول العدوان التي خططت منذ البداية لإيقاف عمل مؤسسات الدولة وتعطيل مصالح المواطنين المرتبطة بها وفي طليعتها الرواتب والعملة والخدمات العامة.

يتفق الدبلوماسيون كما الاقتصاديون على أن البنك المركزي حافظ إلى حد كبير على حياده منذ عام 2014م وحتى سبتمبر 2016م بما شهدته تلك الفترة من أحداث داخلية وعدوان خارجي، مما جعله الدعامة الأخيرة للنظام المالي والوضع الاقتصادي في اليمن، والضامن لواردات البلد الأساسية، وذلك باعتراف محافظ البنك آنذاك محمد عوض بن همام، وهو شخصية تحظى باحترام وثقة من كل الأطراف اليمنية، والذي خرج عن صمته محذراً من تبعات نقل وظائف البنك وإقحامه في الصراع.

ففي نهاية شهر أغسطس 2016م، حذر المحافظ بن همام من أي محاولات تستهدف التأثير على جهود البنك المركزي المتواصلة في تخفيف الآثار السلبية الناجمة عن العدوان منذ مارس 2015م، مؤكداً أن صدور أي قرار بشأن البنك سيكون له تداعيات كارثية على وحدة البلد والقطاع المصرفي اليمني.

وأوضح بن همام أن البنك المركزي اليمني ظل خلال الفترة الماضية، ولايزال يعمل بكل شفافية وحيادية كبنك للجمهورية اليمنية ولكل اليمنيين بدون تمييز، وهو ما يلمسه الجميع في مختلف المحافظات، مؤكداً أن مجلس إدارة البنك المركزي وجميع العاملين فيه، سيستمرون في بذل الجهود لتحقيق الاستقرار المعيشي للمواطنين، وتخفيف أعباء الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يمر بها البلد.

بذل البنك المركزي جهوداً كبيرة في مرحلة صعبة غابت فيها مؤسسات الدولة جراء العدوان على اليمن، فكان لذلك دور فاعل في ترشيد الإنفاق ومتابعة موارد الدولة والحث على توريدها أولاً بأول، والتغلب على أزمة السيولة بالتنسيق مع القطاع المصرفي، في وقت كانت حكومة المرتزقة قد بدأت حملة التشهير والإساءة للبنك المركزي وتشويه دوره الوطني.

نجح البنك المركزي اليمني في الحيلولة دون الانهيار المالي، أو نفاد الغذاء، وعمل على درء شبح المجاعة ونيل ثقة مؤسسات الإقراض والتجارة الدولية بقدرته على إدارة العملة اليمنية واحتياطيات النقد الأجنبي بدون تدخل سياسي، وهي الثقة التي افتقر إليها الطرف الآخر ولايزال حتى اليوم.

ظل البنك يوضح ويفند كل ما وجه إليه من تهم كيدية وتلفيقات، من خلال إصدار تقارير دولية منتظمة لكل مؤسسات الدولة في صنعاء، وكذلك في الرياض، تأكيداً على دوره المحايد والمستقل، وحرصاً على تحقيق الاستقرار الاقتصادي والحد من التضخم والتخفيف من المعاناة الإنسانية، والتي شهد بها رئيس بعثة صندوق النقد الدولي في اليمن “ألبرت جاجر”، بقوله “إن البنك المركزي جاد بكل تأكيد في التزام الحياد في مناخ سياسي وأمني في غاية الصعوبة، وقد حقق نجاحاً إلى حد كبير في الحفاظ على الاستقرار المالي الأساسي خلال الصراع”.

لم تشفع تلك الجهود للبنك المركزي أمام حكومة المرتزقة لإيقاف حملتها المغرضة، مما دفع بالمحافظ محمد بن همام للتوجه إلى الرياض أكثر من مرة، ثم إلى الكويت للمشاركة في المفاوضات آنذاك، وإطلاع جميع الأطراف بمن فيهم سفراء الدول الـ 18 بالدور المحايد للبنك وجهوده للتغلب على أزمة السيولة، إلا أن حكومة المرتزقة أعاقت عمله واستمرت في تشويهه، بالتزامن مع عقدها اجتماعات متكررة مع المؤسسات الدولية في الخارج من أجل تعطيل صلاحيات البنك وقيادته.

وخلال زيارته الأخيرة للرياض أكد بن همام أن صدور أي إجراء أو قرار لنقل وظائف البنك، سيؤدي إلى خلق مزيد من المعاناة وتأخير صرف المرتبات وسيكون له أثر سلبي وكارثي على الاقتصاد والقطاع المصرفي بشكل عام، إلا أنه وبمجرد مغادرة بن همام مطار عمّان في طريق عودته من الرياض إلى صنعاء، أصدر الفار هادي توجيهاته إلى روسيا بإيقاف كل التعاملات مع البنك المركزي في صنعاء.

وعلى الرغم من عدم قانونية قرار نقل وظائف البنك، ومخالفته لقانون البنك المركزي والدستور إلا أن قيادة السلطة المالية في صنعاء تعاملت مع القرار بمرونة تامة، ووجهت مختلف قطاعاته بالتعامل مع القيادة الجديدة، طالما وقد تعهدت أمام المجتمع الدولي والشعب اليمني سواء التعهدات التي أطلقها محافظ البنك المعين من الفار هادي منصر القعيطي في حينه، أو الصادرة لاحقاً عن الفار هادي أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة بأن يحرص البنك على استمرار العمل وصرف الرواتب، وبمجرد وصول أولى الطبعات النقدية المتعاقد عليها من قبل بنك عدن بنفس قالب وشكل العملة الأصلية تم القبول بها وسمح بتداولها داخل في كافة المحافظات على أمل صرفها في إطار الوفاء بالتعهدات ومنها صرف الرواتب، إلا أنها لم تصرف على ذلك النحو، أو حتى لتغطية النفقات الضرورية وتحسين أداء خدمات الدولة، بل أسيء استخدامها بعيداً عن مصلحة الشعب اليمني، مما اضطر البنك المركزي في صنعاء لتغيير طريقة تعامله مع بنك المرتزقة.

وقبل أيام قلائل من نقل وظائف البنك المركزي، أعلن الفار عبدربه منصور هادي من مقر إقامته في عاصمة العدوان، العزم على تنفيذ القرار حتى لو وصل البنك المركزي إلى نقطة الصفر، وهو ما تحقق بالفعل خلال الفترة اللاحقة، إذ سرعان ما أفرغ البنك المركزي من احتياطيه النقدي المقدر بنحو 5 مليارات دولار، وأكثر من تريليون و500 مليار ريال من العملة الوطنية، بينما فقد الريال اليمني قرابة 200 بالمائة من قيمته بعد قرابة ثلاثة أعوام من تنفيذ القرار، لتتحقق بذلك تهديدات السفير الأميركي للوفد الوطني المفاوض في مشاورات الكويت بالعمل على إضعاف العملة اليمنية حتى لو تجاوز سعر الدولار الواحد ألف ريال يمني.

وكان رئيس الوفد محمد عبدالسلام قد كشف آنذاك تهديدات السفير الأمريكي وقال خلال لقاء الحكماء والعقلاء في أغسطس 2018 إن السفير الأمريكي ماثيو تولر قال لأعضاء الوفد “أمامكم الآن صفقة أما أن توقعوها وإما الحصار الاقتصادي سننقل البنك وسنمنع الإيرادات وسنغلق مطار صنعاء” مشيراً إلى أن السفير الأمريكي قال ذلك بالحرف الواحد” وأضاف عبد السلام أنه “وفي حضور الجميع قلنا له (أي السفير الأمريكي) أٌقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا لن نستسلم أبدا مهما كان”.

ما إن نُقلت وظائف البنك المركزي حتى بدأت المؤامرة على الاقتصاد اليمني تتسع وتتشعب شيئاً فشيئاً وضمن عدة مسارات موازية، كان أبرزها استهداف النظام المصرفي، والعملة المحلية، واستنزاف الاحتياطيات النقدية الأجنبية والمحلية، وتعثر آلية استيراد الوقود، وتشجيع عمليات المضاربة بالعملة وجرائم غسل الأموال وتهريبها، وطبع كميات كبيرة من الأوراق النقدية بدون تغطية، وإيقاف المرتبات عن 70 بالمائة من موظفي الدولة، بالإضافة إلى فقدان البنك السيطرة على الموارد العامة للبلد والمتمثلة في عائدات النفط والغاز والموانئ وغيرها.

ظل سعر صرف الريال اليمني، عند 225 ريالاً للدولار الواحد منذ مطلع عام 2015م وحتى بعد بدء العدوان على اليمن وصولاً إلى شهر سبتمبر 2016م وهي الفترة التي نقلت خلالها وظائف البنك، ما أدى إلى تراجع الريال في بادئ الأمر إلى 250 ريالاً للدولار الواحد، ليواصل بعد ذلك انهياره إلى أكثر من 820 ريالاً للدولار الواحد حالياً، في المحافظات الجنوبية الخاضعة للعدوان وحكومة المرتزقة والتي عجزت في نهاية المطاف عن الوفاء بالتزاماتها المالية، بينما ظلت أسعار الصرف في المحافظات التي يديرها المجلس السياسي الأعلى وحكومة الإنقاذ الوطني عند 600 ريال للدولار الواحد، بفضل السياسات المالية والاقتصادية التي انتهجتها صنعاء ومن ضمنها إلغاء العملة “غير القانونية” وحظر تداولها، إلى جانب نجاح البنك المركزي بصنعاء في تنظيم وضبط السوق المصرفي، وغير ذلك من الإجراءات الضرورية لتحقيق نوع من الاستقرار المالي.

يجمع الخبراء على أن التدهور المستمر للعملة يعود إلى السياسات المصرفية الخاطئة التي اتبعها البنك في عدن منذ نقل وظائف المركزي اليمني من صنعاء إلى عدن ولجوئه إلى طباعة م1.72 تريليون من العملة “غير القانونية” خلال أقل من أربعة أعوام، وهو ما يعادل تقريبا ما طبعه اليمن من العملة منذ إعلان الوحدة عام 90، مؤكدين أن تلك السياسات أدت إلى نقص القوة الشرائية للريال عند كل إصدار وطباعة وصولاً إلى ما نحن عليه اليوم.

وفي هذا السياق نشرت مجلة “كونسرفيتف” الأمريكية تقريراً للخبير “ديكلان والش” يقول فيه إنه “لم تكن الأزمة الاقتصادية في اليمن مؤسفة فحسب جراء الآثار الجانبية التي لا مفر منها نتيجة القتال, ففي العام 2016, نقلت الحكومة اليمنية المدعومة من السعودية إدارة البنك المركزي من العاصمة صنعاء التي يسيطر عليها الحوثيون إلى مدينة عدن الجنوبية, وقال مسؤول غربي كبير أن البنك الذي فرضت المملكة العربية السعودية سياساتها عليه بدأ في طباعة مبالغ ضخمة من الأموال الجديدة , إذ تسببت طباعة الأموال الجديدة تلك في دوامة تضخمية أدت إلى تآكل قيمة أي مدخرات لدى الناس, كما توقف البنك عن دفع رواتب موظفي الخدمة المدنية في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون، حيث يعيش 80 % من اليمنيين,و نظراً لأن غالبية العمال يعملون في القطاع الحكومي، فقد انقطع الدخل عن مئات الآلاف من الأسر في المناطق الشمالية فجأة.

 

اعتمد بنك عدن بشكل أساسي على طباعة العملة لمواجهة التزاماته الداخلية، في حين اعتمد على وديعة سعودية قدرها مليارا دولار لتغطية الاعتمادات المستندية وغيرها من الالتزامات بالعملة الصعبة منذ نهاية عام 2018م، إلا انه سرعان ما انكشف عقب نفاد تلك الوديعة في الأشهر الأخيرة ليعاود الريال تراجعه إلى ما كان عليه قبل وصول الوديعة السعودية.

وكنتيجة متوقعة أدى انهيار العملة اليمنية وأزمة السيولة الحادة إلى ارتفاع أسعار السلع الغذائية والمواد الأساسية بنسبة تتراوح بين 3 – 4 أضعاف، وزيادة التضخم إلى أكثر 70 بالمائة، إلى جانب ارتفاع معدلات البطالة والفقر والجوع، لتشمل نحو عشرين مليون يمني وفقاً لتقارير المنظمات الدولية، ما جعل من طباعة العملة وسيلة حرب بيد سعودية وحكومة المرتزقة هدفها إدخال شريحة واسعة من المواطنين تحت خط الفقر لما يترتب على طباعتها من ارتفاع لأسعار السلع المستوردة بالدولار من الخارج، كما تؤدي إلى تآكل رأس المال الوطني ومدخرات المواطنين وتفاقم الكارثة الإنسانية الناتجة عن العدوان والحصار المفروض على اليمن منذ قرابة ستة أعوام.

وتقدر الدراسات والتقارير نسبة الاقتصاد الخفي في اليمن بنحو 90 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي، بالاستناد إلى تدني نسبة تحصيل الموارد العامة واستحواذ المجلس الانتقالي الجنوبي على مختلف الموارد العامة كالضرائب والجمارك مع ضياع عائدات تصدير أهم مرتكزات الاقتصاد اليمني المتمثلة في النفط والغاز وتوريدها إلى حسابات خاصة خارج البنك المركزي في عدن والذي بات يفتقر للعملة الصعبة من الدولار.

ويشير خبراء اقتصاديون إلى أن الهدف الحقيقي من وراء نقل وظائف البنك المركزي كان من أجل تعطيله ونقل وظائفه إلى كيانات مصرفية أخرى، عملت على خلق اقتصاد موازٍ يديره تجار الحروب ويكون هو المتحكم بتدفق السيولة عبر السوق السوداء والمضاربين بالعملة، وعمليات غسل الأموال التي كانت تدار غالبيتها من بعض عواصم دول العدوان وتحديداً من أبو ظبي ودبي.

ظهر الوجه الآخر للمؤامرة السعودية الإماراتية على البنك المركزي اليمني، حين تحول البنك في عدن إلى أداة لغسل الأموال والمضاربة بالعملة ليتكبد في عام 2018م عشرات المليارات من الريالات، ذهبت لصالح أشخاص وكيانات مصرفية بالتواطؤ مع مسؤولين في حكومة المرتزقة ومركزي عدن، والتي أشارت إليها لجنة الخبراء التابعة للأمم المتحدة في تقريرها لمجلس الأمن الدولي.

لم تكتفِ السعودية والإمارات بما فعلتاه حتى الآن بالبنك المركزي والعملة الوطنية وبالاقتصاد الوطني ككل، إذ لا تزال دول العدوان تقف عائقاً أمام استقرار الوضع الاقتصادي من خلال احتجاز سفن المشتقات النفطية وافتعال الأزمات المعيشية والإنسانية، وكل ما من شأنه إلحاق العقاب الجماعي بالشعب اليمني الرافض لإملاءاتها وأطماعها.

(113)

الأقسام: المراسل السياسي,المراسل العام,اهم الاخبار,تقارير المراسل,صحافة وترجمات