اليمن بعد ست سنوات من الحرب والحصار.. عندما ينتصر الدم على النفط!

المراسل: من ملف لـ”جريدة الأخبار اللبنانية”

تدْخُل الحرب على اليمن عامها السابع، في ظلّ تحوُّلات دراماتيكية في القوة والفعل اليمنيَّين، تجعل الكفّة تميل بالمطلق لصالح صنعاء. مع ذلك، لا تزال السعودية مغمضةً عينيها عن حقيقة ما يجري في الميدان، رافضةً، لِعِلّة استعلاء كامنة في رؤوس حكّامها، الإقرار بأن الحرب انتهت عملياً بهزيمة شنيعة لها، وأن استمرارها مجرّد مكابرة لن تفضي إلّا إلى مزيد من الخسائر للرياض، ومِن خلفها حلفاؤها الغربيون، وتالياً «الشريك الجديد» المُتمثّل في إسرائيل، والذي باتت الصواريخ والمُسيّرات اليمنية تمثّل عامل إقلاق متصاعد له، يجعله يتمنّى استمرار الحرب لمجرّد إشغال «أنصار الله» وحلفائها عن أيّ هجمات ابتدائية.

تمضي المملكة، إذاً، ومعها الحليف الأميركي، الذي ظنّ أنه بمجرّد إعلان دعائي عن وقف دعمه لتحالف العدوان سيستطيع إرغام صنعاء على التنازُل، في محاولة فرْض واقع استسلام كامل ليس في جعبتهما أدنى مكسب يخوّلهما ولو مجرّد التحدُّث به. ولذا تحديداً، ومن موقع تفوُّق بائن ثبّتته سنوات القتال الستّ، تؤكّد «أنصار الله» أن رفع الراية البيضاء ليس وارداً لديها ولو استمرّت الحرب عقوداً، وأن ما على عروش الملكيات سوى الإقرار بأن مراهنتها على أن النفط سينتصر على الدم، باءت بالخسران، حتى ينفتح باب الحلّ… هكذا، ببساطة!

 

درْس الاستحماق السعودي: كيف تخسر حرباً؟  (لقمان عبدالله )

ستُّ سنوات من الحرب على اليمن، انتهت إلى كارثة ستلقي بتداعياتها، طويلاً، على مستقبل السعودية وصورتها. دخلت المملكة الحرب في غياب خطّة متكاملة الأركان، وها هي تبحث عن مخرج يحفظ لها ماء وجهها، بعدما فشلت في تحقيق أيٍّ من أهدافها المعلنَة وغير المعلَنة. وذلك عاملٌ رئيس يضاف إليه غياب العقيدة العسكرية، والخواء المعلوماتي والاستخباري عن حجم قدرات «العدو» وتقدير قوّته. هذه العوامل مجتمعةً أسهمت، بصورة مباشرة، في انتصار اليمن في حربٍ ستحفر ندوباً عميقة في وجه أمراء آل سعود، وتطيح مقولة التفوّق النوعي للسعودية، فضلاً عن كونها ستؤثّر سلباً على «ريادتها» في الجزيرة العربية.

لعلّ الاستعلاء، وهو سِمةٌ سعودية متأصّلة، منَع المخطِّطين للحرب – إن وجدوا – من رؤية «أنصار الله» كمنظّمة تتوافر فيها عناصر النجاح والانتصار، لكونها تمتلك العقيدة الإيمانية، والقضية العادلة، والإرادة الصلبة، والمثابرة والتخطيط، وتحديد الأهداف، والمهارة في استخدام الأسلحة المناسبة، وتطويع التضاريس المتنوّعة والمعقّدة، والبراعة في اعتماد تكتيكات قتالية، غير تلك التي اعتادتها الجيوش الخليجية، ومَن يشرف على هيكلياتها وتدريبها وتسلحيها. في المقابل، فُرضت على الجيش السعودي، وجمع كبير من جيوش دول «التحالف»، منازلة مع القوات العسكرية اليمنية، في الوقت الذي كانت فيه بنوك معلومات تلك الجيوش وخزائنها الاستخبارية والمعلوماتية خالية من البيانات الضرورية لخوض الحرب. وبناءً على ذلك، شُنَّت الحرب وفق أساليب وطرائق قتال لا تتوافق واستراتيجيات الجيوش الخليجية، ولا تتلاءم مع كفاءة وتدريب وروحية الأفراد القائمة على الراحة ووفرة المستلزمات الشخصية والعسكرية، ما أدى إلى تَعطُّل قدراتهم وإمكاناتهم، وأفقدهم فعالية عنصرَي التفوُّق الجوي والتفوُّق التكنولوجي اللذين لطالما اعتدّوا بهما. وتبيَّن لاحقاً أن معظم ما يملكه السعوديون من معلومات، يحصلون عليه من خلال المشاركة الأميركية والغربية الاستخبارية في الحرب، وأغلبها صور جوية للأقمار الاصطناعية والطائرات المسيَّرة، تعتبر فعّالة على الجبهات من دون شك، لكنها غير كافية لتحقيق الغلَبة.

أظهرت الوقائع لاحقاً أن العمل الاستعلامي السعودي أقرب ما يكون إلى فعل الهواة منه إلى عمل الاستخبارات. ومجدَّداً، نشطت الاستخبارات الأميركية والبريطانية في عملية التجنيد البشري للتعويض عن النقص الحاصل، متّخذة من مطار الغيضة في محافظة المهرة مقرّاً لها. وعلى رغم ذلك، ظهرت عاجزة عن تقديم أجوبة عن العدّة العسكرية، والإعداد، بمعنى كيف تنظم قوّات صنعاء نفسها، وكيف بمقدورها أن تُحوّل تلك الأسلحة والذخائر إلى درجة من الفعالية والجودة والتأثير. وكان من نتائج ذلك الخواء الاستخباري، أيضاً، أن نجحت «أنصار الله» في الصمود لسنوات طويلة أمام أغنى دولة في الشرق الأوسط، يُصنَّف جيشها من بين الأفضل تسليحاً في العالم. خواءٌ برهن أن التفوّق التكنولوجي وحده، على رغم أهميّته الكبيرة، لن يُربّح السعودية الحرب، بينما تواجه معضلة غياب عقيدة عسكرية مبنيّة على أساس متطلّبات الدولة والتهديدات الخارجية التي تواجهها، فضلاً عن تراجُع الحافزية القتالية للجندي السعودي، وهو ما مكَّن الحركة من تحييد الفارق التكنولوجي الكبير الذي كان مختلّاً لغير مصلحتها، إلى جانب براعتها في صناعة المقاتل الفرد، والتي أدهشت المحلّلين والمهتمّين والمراقبين، الذين يتوقّعون أن تُدرَّس تكتيكات «أنصار الله» العسكرية، وخصوصاً دمجهم بين الطرق والنظم التكتيكية الكلاسيكية، والأخرى غير المُنظَّمة، والتي تُسمَّى بحرب العصابات.

ربّما أدرك السعوديون حقيقة عجزهم عن المبادرة أمام الصمود اليمني وانتقاله إلى مرحلة المبادرة والهجوم والوقوف أمام أعتى دول المنطقة، المدعومة سياسياً وعسكرياً من الغرب، بعدما تمكّنت «أنصار الله» من خلْق معادلات ردع جديدة بين ضفّتَي الجزيرة العربية، من خلال توجيه ضربات مؤلمة للعمق السعودي وتهديد منظومته النفطية المتمثّلة في منشآت «أرامكو»، درّة اقتصاده، ونجحت في استهداف مطاراته وإيقاف الرحلات فيها لساعات. ومن شأن ذلك أن يخلّف تداعيات مُقلقة، وأن يطيح كلّ إنجازات السعودية لعقود، فضلاً عن أنه يسيء إلى سمعتها ومكانتها وحضورها، ويرسم صورة قاتمة لمستقبلها.

حين اندلعت الحرب، كانت السعودية تتمتّع بتفوُّق عسكري ساحق على المستوى الجوي، فيما أدّت الظروف السياسية المتواطئة معها، من قِبَل معظم الدول العربية والغربية، إلى توفير الغطاء لمجازرها واستباحتها لكلّ نواحي الحياة في اليمن. مع ذلك، فإن حماقاتها الاستراتيجية وعيوبها العملياتيّة التي استمرّت طوال الحرب، أظهرت فشلاً واضحاً، وغيَّبت عناصر الحسم، حتّى باتت تتلمَّس الأبعاد الكارثية لحربها.

 

ستّ سنوات بين الحلم والحقيقة: المُسيّرات تقضّ المضاجع بـ500$!  (رشيد الحداد)

على مدى السنوات الماضية، دخل الطيران المُسيّر اليمني الصنع، الخدمة تدريجياً، كواحد من أهمّ أسلحة الردع الاستراتيجي التي تمتلكها صنعاء، وساهم بشكل فاعل في تغيير المعادلة الجوية، ونقْل المعركة من الأجواء اليمنية إلى أجواء دول العدوان السعودي – الإماراتي، خصوصاً خلال السنتَين الفائتَتين. وعلى رغم حداثة التجربة اليمنية في صناعة الطيران المُسيَّر، والتي كانت مجرّد حلم خلال الأشهر الأولى من الحرب، إلا أنها، وبعد محاولات استمرّت لعام ونصف عام وبدأت بطائرات لم يتجاوز مداها 2 إلى 5 كلم، تحوّلت إلى حقيقة مطلع عام 2017، عندما كشفت دائرة التصنيع العسكري التابعة لوزارة الدفاع في صنعاء عن تمكُّنها من صناعة أوّل طائرة مُسيَّرة هجومية أطلق عليهم اسم «قاصف 1»، وثلاث طائرات استطلاعية هي: «راصد»، «هدهد 1»، و«رقيب»، زُوّدت جميعها بأنظمة رصد وتعقُّب وتقنيات تصوير فوتوغرافي حديثة، واستُخدمت في الجبهات الداخلية حينذاك. هذا النوع من الطائرات القصيرة المدى مَثّل باكورة برنامج وطني حديث لصناعة الطيران المُسيَّر، حظي بدعم وتشجيع من قيادة حركة «أنصار الله». ولذلك، شهد سلاح الجو المُسيَّر، عام 2018، تطوُّراً كبيراً؛ ففي مطلع حزيران/ يونيو من العام نفسه، كشفت صنعاء عن ثلاث طائرات مُسيَّرة بعيدة المدى، هي «صماد 1» الاستطلاعية، و«صماد 3» الهجومية، و«قاصف K2» الهجومية التي استُخدمت في استهداف المجاميع العسكرية والمعسكرات.

الدور الفاعل الذي لعبه الطيران المُسيَّر في المعركة الدفاعية التي تخوضها صنعاء منذ ستّ سنوات، انعكس بشكل إيجابي على تطوُّر هذا النوع من السلاح الحديث. إذ أعلنت قيادة صنعاء عام 2019 عام الطيران المُسيَّر، وأولت اهتماماً خاصاً لمهامّ التطوير والتحديث، لتتمّ صناعة طرازات جديدة بقدرات قتالية عالية وبتكنولوجيا أكثر تطوُّراً وبمديات أطول. ففي الـ12 من آذار/ مارس الجاري، أماطت وزارة الدفاع اللثام عن سبعة أنواع من الطيران المُسيّر المحلي الصنع، من بينها «وعيد» التي يمكنها الوصول إلى ما بعد أبو ظبي التي تفصلها مسافة 1400 كلم عن اليمن، و«صماد 4»، و«شهاب». ونظراً لما تتطلّبه المعركة البرّية التي يخوضها الجيش و«اللجان الشعبية» مع القوات الموالية لدول تحالف العدوان، فقد تمّت، في الآونة الأخيرة، صناعة عدد من الطائرات الهجومية والاستطلاعية (في آن) القصيرة المدى، كطائرة «رجوم» المُخصَّصة لإلقاء القنابل على القوات المعادية والعودة، على عكس الأخريات التي تنفجر أثناء تنفيذ الأهداف، وطائرة «خاطف»، وطائرة «نبأ» الاستطلاعية.

ويؤكد مصدر عسكري في صنعاء، لـ«الأخبار»، أن «الطيران المُسيَّر تميّز بفاعليته ودقته في تنفيذ الهجمات الداخلية والخارجية ضدّ العدو خلال السنوات الماضية»، لافتاً إلى أن «هذا النوع من السلاح الجوي يُعدّ من الأسلحة الأقلّ تكلفة والأكثر جدوى، إذ لا تتجاوز تكلفة أحدث الطائرات المُصنَّعة محلّياً 3000 إلى 6000 دولار، فيما معظم الطائرات الاستطلاعية والهجومية قصيرة المدى تصل تكلفة إنتاجها إلى ما بين 500 و2000 دولار، إلى جانب كونه سلاح ردع ورعب استراتيجي، يمتاز بتقنيات متطوّرة»، مضيفاً أن «الطيران المُسيَّر مَكّن القوات اليمنية من ضرب أهداف سعودية في مختلف أرجاء المملكة». وقد دفع هذا التطوُّر اللافت في الطيران المُسيَّر اليمني، دول تحالف العدوان، إلى حظر استيراد أكثر من 100 صنف من الأسمدة والكيماويات وألواح الطاقة الشمسية والمحاليل وطائرات التطوير بدون طيار، وصولاً إلى حظر استيراد هياكل الدرّاجات النارية، تحت مبرر استخدام تلك المواد في صناعة المُسيَّرات.

وخلال السنوات الثلاث الماضية، تصاعَدت العمليات الهجومية التي استَخدمت فيها صنعاء الطيران المُسيَّر. ووفقاً للبيانات السنوية التي يعلنها المتحدّث الرسمي للجيش و«اللجان»، العميد يحيى سريع، فقد نفّذ سلاح الجو المُسيَّر 38 عملية هجومية، منها 28 عملية استهدفت قوات موالية لتحالف العدوان في الداخل اليمني، و10 عمليات استهدفت منشآت عسكرية في السعودية والإمارات، بالإضافة إلى عدد من العمليات المشتركة التي نُفّذت مع وحدة المدفعية. لكن عمليات الطيران المُسيَّر، بنوعَيه الهجومي والاستطلاعي، تضاعفت إلى أعلى مستوى خلال عام 2019، حيث بلغت 2426، منها 2087 استطلاعية، و5 هجومية مشتركة مع القوة الصاروخية، و196 استهدفت قواعد ومنشآت ومطارات في السعودية. وبحسب بيانات وزارة الدفاع في صنعاء، فقد ارتفعت الهجمات التي نُفّذت بواسطة طائرات مُسيَّرة، العام الماضي، إلى أكثر من 5 آلاف عملية هجومية جوية واستطلاعية، منها 267 استهدفت العمق السعودي، و180 استهدفت مواقع القوّات الموالية للمملكة في جبهات الداخل، فضلاً عن استخدام الطيران المُسيَّر خلال العامين الماضين في أهمّ سِتّ عمليات ردع استراتيجية، كعملية استهداف حقل الشيبة النفطي بعشر طائرات مُسيَّرة من نوع «صماد 3» قطعت مسافة أكثر من 1300 كلم، واستهداف حقلَي نفط بقيق وخريص في المنطقة الشرقية، وعملية التاسع من رمضان العام الماضي، والسادس من شعبان الجاري.

 

توازُن الردع: عندما يحمي «الباليستي» الطفولة  (موسى السادة  )

بغضّ النظر عن الجدل القائم حول اعتبار العلوم السياسية «علماً»، وما إلى هذا المصطلح من هالة وقدسية تكادان تجعلانه «ديناً» بحدّ ذاته، فإن عملية تنظيم وسرد التجارب السياسية واستخلاص النظريات منها أمر ذو أهمية. وهذا ينسحب بطبيعة الحال على العلوم العسكرية الاستراتيجية، فالمطّلع على المؤلَّف المرجعي «فنّ الحرب» للفيلسوف الصيني، سون تزو، قبل أكثر من ألفَي عام، يلاحظ أن العديد من النقاط والنظريات لا تتعدّى كونها بديهيات، لكن الأهمية هنا تتعلّق بتنظيم واستعراض هذه الخبرات والمُحصّلة المعرفية.

إمكانية تبنّي هذه النظريات السياسية تتعلّق بافتراض أوّلي مهمّ، مفاده أنها جميعها، من «نظرية اللعبة» إلى «نظرية الردع»، تستلزم التعامُل مع الفاعلين السياسيين كفاعلين «عقلانيين»، أي أن منظومة اتخاذ القرارات لديهم منطلقة من حسابات عقلانية للربح والخسارة من أيّ فعل. ومن دون هذا الافتراض، تنهار جميع محاولات التنظير واستشراف خيارات أطراف الصراع. ترزح هنا بالتحديد إحدى أبرز معضلات التحليل السياسي العربي في زمننا الحالي، حيث ومن خلال عملية عملاقة من «الاستشراق الذاتي» منساقة للدعاية السياسية لمراكز صنع الوعي في الغرب والخليج، نتوقّف عن مقاربة مختلف أطراف صراعنا المحتدم في الوطن العربي كأطراف عقلانية، بل وعلى العكس، ننظر إلى أنفسنا بالعدسة التاريخية للاستعمار، وهي نفسها العدسة التي تُصوّرنا في الأفلام الهوليودية كمجانين بأسلحة نُفجّر ما حولنا بشكل اعتباطي، أي كقبائل وطوائف تَحكمنا الهمجية والعواطف و»الخرافات» الدينية – للمفارقة، لا يوجد قطعاً مشروع ينساق عبر الخرافات كالمشروع الصهيوني -. وإن كان يجب الاستدراك بأنه حتى «العقلانية المفرطة» والنفير من العواطف والإيمانات الغيبية باستعلاء هما مشكلة بحدّ ذاتهما، ولعلّه من المفيد استذكار قول يُنسب إلى غسان كنفاني «بأن الفكرة النبيلة غالباً لا تحتاج إلى الفهم، بل تحتاج إلى الإحساس».

تحيلنا هذه المسألة إلى منظور «الوكالة – Proxy»، والتي هي بدورها تتبنّى وتُسقط الأدبيات الغربية على تفسير الصراع في المنطقة العربية، والنظر إلى الجماعات والتيّارات السياسية وبل حتى الأفراد كمحض أدوات تعمل كمشغّل لمصالح القوى الإقليمية، وبالخصوص إيران. المشكلة أنه في هذا الطرح تكمن عملية الاستشراق الذاتي نفسها الآنفة الذكر، بالإضافة إلى التفسيرات العقدية والطائفية للصراع. إن تفكيك القصور في «نظرية الوكالة» يستلزم خلْع العدسات الاستشراقية، واحترام ذاتك كعربي أوّلاً ومن ثمّ احترام باقي أفراد أمّتك، والتوقُّف عن النظر إلى الفاعلين السياسيين العرب كقُصّر غير بالغين سياسياً تحكم قراراتهم توجيهات خارجية، على نسَق السردية الصهيونية من أن المقاوم للعدو ينفّذ «توجيهات إيرانية»، وكأن العربي الذي يقاوم المشروع الصهيوني منذ مئة عام يحتاج إلى توجيه ليتّخذ قرارات تصبّ في مصلحته. الأمر ذاته في اليمن، فاليمني لا يحتاج إلى توجيه خارجي ليقوم بالدفاع عن أرضه أو ببناء معادلة ردع تحمي سماء عاصمته. فهو هنا يحمي نفسه وأرضه ومنزله وأطفاله ومقدّراته، فالأمر لمصلحته هو، وأبعد ما يكون عن العلاقات والتحالفات الطائفية. فعندما تَمنع المشتقّات النفطية عن اليمنيين، ومن ثمّ يتّجهون للسيطرة على مصافي النفط في مأرب، فهم لا ينفّذون «أجندة إيرانية». فلو استبدلْت أهل محافظات الشمال، أو أبدلْت بالانتماء المذهبي لـ»أنصار الله» أيّ انتماء عقدي آخر، ولْنَقُل «البوذية»، أو حوّلتهم إلى جمع من القبائل الأسكتلندية، فسيظلّ هذا الخيار السياسي هو الأصوب ضمن حسابات عقلانية بحتة لا علاقة لها بالانتماء الهويّاتي والطائفي.

 

نظرية الردع

تنصّ نظرية الردع (Deterrence theory) على أن الطرف الأضعف في الحرب، وعبر استخدام التهديد بسلاح فتّاك – كالردع النووي -، أو عبر التهديد باستخدام سلاح بشكل استراتيجي يضرب العدو في نقاط حسّاسة، يستطيع بناء معادلة ردع تلجم العدو عن المبادرة إلى الهجوم أو حتى إيقاف هجماته القائمة. فالهدف العقلاني الأساس هو حماية مُدنك وشعبك ومناطقك الحيوية من ضربات العدو، وهذه المعادلات هي التي تحفظ السلام في العالم، وتنهي حروباً – وانتفاؤها يشعل أخرى -، لا دعوات الأمين العام للأمم المتحدة إلى السلام ووقف إطلاق النار.

تتجسّد هذه النظرية على شكل معادلة الردع الصاروخي على طول ساحات الصراع العربية؛ منذ المعادلة التي فرضتها المقاومة اللبنانية عبر تهديد مستعمرات الشمال الفلسطيني بصواريخ «الكاتيوشا» (كريات شمونة/ قرى الجنوب) نهاية التسعينيات، إلى توازُن الردع الحاصل اليوم عبر الترسانة الصاروخية للمقاومة، مروراً بالردع الذي تُمثّله صواريخ المقاومة الفلسطينية في غزة ليس على مستعمرات غلاف غزة فحسب، بل بمدى يصل إلى تل أبيب، وصولاً إلى معادلة الردع التي تعمل على تثبيتها القوّة الصاروخية اليمنية في مقابل قوى العدوان السعودي – الأميركي.

خلال أوّل أيام ما سُمّي «عاصفة الحزم»، كرّر المتحدث العسكري السعودي، أحمد عسيري، أنه «تمّت السيطرة على المجال الجوي اليمني في 15 دقيقة» في نوع من السخرية الفوقية والاستعلاء الطبقي السعودي التاريخي على اليمن وشعبه. فالقوة العسكرية السعودية، عبر سلاح الجو والدعم اللوجستي الأميركي والبريطاني – وفقاً لـ»الغارديان»، هنالك أكثر من ستة آلاف متعاقد عسكري بريطاني لتشغيل الآلة الحربية السعودية – والتفوُّق البحري للقوات البحرية السعودية والإماراتية، وضعت اليمن، وإلى يومنا الحالي، تحت حصار مطبق. وعليه، من ناحية مادية صَرفة، العدوان على اليمن هو حرفياً حرب أغنى دول الأرض بالمُطلق على أحد أفقرها بالمُطلق – وهناك من يرتاب في الانحياز لليمنيين! -.

انطلاقاً من ذلك، وجَد اليمنيون أنفسهم في تحدٍّ عسكري كبير. فمنذ بداية الحرب في 25 آذار/ مارس 2015، إلى إطلاق أوّل صاروخ يمني تجاه الأراضي السعودية، وبالتحديد على جيزان في السادس من حزيران/ يونيو من العام نفسه، شنّ طيران العدوان أكثر من ألفَي غارة جوية (مصدر جميع الأرقام: مشروع بيانات اليمن YDP)، ولتبدأ مذّاك مسيرة تشييد معادلة الردع اليمنية. استندت القوة الصاروخية اليمنية، في العام الأول من العدوان، إلى مخزون الصواريخ السوفياتية القصيرة المدى وعدد من الصواريخ الكورية الشمالية وعمليات تحويل صواريخ «سام» الأرض – جو إلى أرض – أرض. وللمفارقة، فإن مخزون الصواريخ هذا كانت قد استوردته دولة اليمن الجنوبي، وبعد الوحدة اليمنية، وبالتحديد جراء تبعات حرب عام 1993، تمّ نقل المخزون إلى الشمال.

شهدت أوّل شهور الحرب استخداماً لهذه الترسانة، وإطلاق صواريخها على محافظات جيزان وعسير ونجران جنوب المملكة، على نحو غير متوقّع استنفر قوات الدفاع الجوي السعودية، ما دفع محمد بن سلمان، الذي نشر صورة أيقونية مع محمد بن زايد خلال زيارة قاعدة الملك فهد الجوية خلف طائرات السرب الخامس من سلاح الجوّ في نيسان/ أبريل 2015 (استهدف اليمنيون القاعدة في تشرين الأول/ أكتوبر 2016)، إلى زيارة قوات الدفاع الجوي في جنوب المملكة بعدها بعام واحد، والتقاط صور أخرى، ولكن هذه المرّة وهو يتناول الإفطار ومن خلفه منصّات «الباتريوت» في رمضان 2016.

استمرّ اليمنيون في تطوير قدراتهم الصاروخية، مع الاستعانة بالتجربة الإيرانية، من تصاميم الصواريخ إلى التقنيات إلى أجهزة التوجيه، وليتّخذ منحى التعلُّم والتطوُّر شكلاً تصاعدياً من ناحية المديات. فبعد سلسلة من العمليات التي وُجّهت ضدّ كلّ من جدة والرياض وحتى أبو ظبي من دون أن تنجح في بلوغ أهدافها، أعلنت السعودية، في تشرين الأول/ أكتوبر 2016، اعتراض صاروخ «يستهدف مكة»، في أوّل اعتراف بوصول الجيل الأول من منظومة «بركان» إلى هدفها. وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 2017، سُجّل أول استهداف للعاصمة السعودية الرياض، ليبدأ بعدها اليمنيون بناء قدراتهم لتثبيت معادلة العاصمة – العاصمة. ففي العام نفسه، استهدفت قوى العدوان العاصمة صنعاء 100مرة ومرة واحدة، ذهب ضحيّتها 52 شهيداً، وأكثر من 70 جريحاً بينهم 5 أطفال و4 نساء.

ومع بداية عام 2018، أعلن رئيس «المجلس السياسي الأعلى» السابق، الشهيد صالح الصماد، أن هذا العام سوف يكون «عاماً باليستياً بامتياز»، لتُكثّف القوة الصاروخية بعد ذلك من هجماتها بشكل يتناسب مع منحى تطوُّرها كمّاً ونوعاً. فالهدف الاستراتيجي الرئيس هو تثبيت معادلة «الغارة الجوية مقابل القصف الصاروخي على جنوب السعودية». وعلى نحو موازٍ، كانت الغاية الاستراتيجية تحييد العاصمة صنعاء من الغارات الجوية عبر قصف الرياض، وبالخصوص أن اليمنيين كانوا واعين للديناميكيات الداخلية السعودية وتناقضاتها، فقصف الجنوب بالنسبة إلى عقلية الحكم السعودي مختلف عن قصف الرياض (المركز السياسي والاجتماعي للحكم السعودي)، وبشكل يساهم في تذكير الثقل السكّاني السعودي بأن دولته تخوض حرباً، وإن كان لا يرى آثارها سوى على التلفاز، أو كما عبّر شاعر يمني واصفاً صوت الانفجارات فوق الرياض: «سمعوا به مَن أغلقوا آذانهم… ورآه كلّ منافق يتعامى».

خلال هذا العام، بدأت معالم معادلة الردع ترتسم، حيث استهدفت قوى العدوان العاصمة صنعاء بـ37 غارة راح ضحيّتها 188 يمنياً بينهم 19 شهيداً 3 منهم أطفال و4 نساء. ويُعزى هذا الانخفاض الدراماتيكي في عدد الغارات إلى عمليّات الرد اليمني، ففي الشهور الثلاثة الأولى، شنّ طيران العدوان 5 غارات على صنعاء، ليردّ اليمنيون في يوم الذكرى الثالثة للحرب باستهداف الرياض في أواخر آذار/ مارس، لتردّ قوى العدوان باستهداف صنعاء خلال شهر نيسان/ أبريل بأربع غارات، لتعود القوات اليمنية وتستهدف الرياض في الشهر نفسه، وليتكرّر المشهد ذاته في الشهر السادس من العام عينه.

 

عمليات توازن الردع

استمرّت الغارات السعودية خلال الأشهر الأخيرة من عام 2018، وصولاً الى الربع الثالث من عام 2019، بما مجموعه خمس غارات تَوزّعت بين أشهر كانون الثاني/ يناير وحزيران/ يونيو، وصولاً إلى تموز/ يوليو حين أسفرت إحدى الغارات عن مجزرة راح ضحيّتها 15 شهيداً كلّهم سوى واحد من الأطفال، مع إصابة 22 امرأة و34 طفلاً، في ما محصّلته 110 ضحايا. هذه المجزرة دفعت اليمنيين إلى تغيير في الاستراتيجية، خصوصاً مع صدّ الدفاعات الجوية السعودية للهجمات الصاروخية المنفردة، ليُدشِّن اليمنيون ما سمّوه صراحة «عمليات توازن الردع»، لتكون المعادلة «صنعاء في مقابل المناطق الحيوية النفطية السعودية». فبعد المجزرة بقرابة الشهر، أعلن المتحدث باسم القوات المسلّحة اليمنية، العميد يحيى سريع، عملية «توازن الردع الأولى» التي استهدفت حقل الشيبة النفطي التابع لشركة «أرامكو» على الحدود مع الإمارات. اعترفت السعودية آنذاك بالضربة، وأعلن وزير الطاقة والثروة المعدنية، خالد الفالح، أن «إحدى وحدات معامل الغاز تعرّضت لاعتداء، عبر طيّارة مفخّخة».

كررّ الطيران السعودي، بعدها بأسبوعين، قصف صنعاء، وتحديداً في الثاني من أيلول/ سبتمبر، لينتظر اليمنيون الفترة الزمنية نفسها تقريباً ليعلنوا «عملية توازن الردع الثانية»، بعد الاستهداف الشهير لمصافي بقيق وخريص، في ضربة مدوّية على كلّ المستويات – لم يُقتل أيّ طفل يمني في صنعاء بعد ذلك اليوم -. ردّ الطيران السعودي بعدها بشهر بضربتين على صنعاء، ثمّ توقّفت الغارات لأكثر من شهرين، قبل أن تعاود قوى العدوان قصف العاصمة اليمنية خلال كانون الثاني/ يناير وشباط/ فبراير 2020، ليتكرَّر السيناريو من جديد ويخرج العميد يحيى سريع ليعلن «عملية توازن الردع الثالثة»، التي استهدفت ينبع، المدينة الصناعية السعودية الأبرز على ساحل البحر الأحمر، ليعود الهدوء إلى سماء صنعاء لمدّة ثلاثة أشهر، قبل أن تعود الغارات في شهرَي نيسان/ أبريل وأيار/ مايو. وعليه، كانت عملية «توازن الردع الرابعة» في شهر حزيران/ يونيو، بهجوم واسع استهدف كلّاً من الرياض وجيزان ونجران، ليعود الهدوء النسبي لشهور، حتى نهاية العام. ومع بداية العام الجاري، شنّ الطيران السعودي غارات متقطّعة ما بين كانون الثاني/ يناير وشباط/ فبراير، فكانت عملية «توازن الردع الخامسة» نهاية شهر شباط، في هجمات منسّقة على الرياض وأبها وخميس مشيط.

 

عملية «توازن الردع السادسة»: سنؤدّبكم!

نهار السابع من آذار/ مارس الجاري، نقلت وكالة الأنباء السعودية عن قيادة «التحالف» إعلانها «بدء تنفيذ عملية عسكرية نوعية بضربات جوية موجعة ضدّ الميليشيا الحوثية الإرهابية»، وأن العملية «تستهدف القدرات الحوثية» في صنعاء. أسفرت الضربات، وفق مصادر يمنية، عن إصابة 4 يمنيين من بينهم طفلان، وأظهرت المشاهد هلع السكّان والأطفال. لم تكن هذه الهجمة مجرّد سابقة منذ أشهر عديدة من حيث إسفارها عن اصابات واستهدافها لقلب العاصمة فقط، بل إن المتحدث السعودي بادر جهاراً ونهاراً في الإعلان عن حملة ضربات جوية تجاه العاصمة اليمنية، وكأن ميزان القوى لا يزال كما كان عليه في الأشهر الأولى من العدوان.

وعليه، خرج محافظ ذمار، محمد البخيتي، في اليوم نفسه مُهدّداً بالردّ، ومخاطِباً السعوديين بالقول: «سنؤدّبكم». لم يتأخّر الردّ اليمني، بل جاء في الليلة نفسها، في عملية ذات مضامين عدّة سواء في سرعة الردّ أو المواقع المستهدَفة ومداها الجغرافي، ليطلّ يحيى سريع مُعلِناً عملية «توازن الردع السادسة»، التي استهدفت ميناء رأس تنورة في المنطقة الشرقية وأهدافاً عسكرية في الظهران – ليشهد سكّان المنطقة الشرقية، ولأوّل مرّة، أصوات الدفاعات الجوية فوق رؤوسهم -، بالإضافة إلى هجمات متوازية على كلّ من عسير وجيزان.

 

خاتمة

في الذكرى السادسة للعدوان السعودي – الأميركي على اليمن، وعلى رغم وصول الأوضاع الإنسانية إلى أسوأ مستوياتها، إلّا أن ميزان الحرب انقلب، حيث مزج اليمنيون معادلات إيقاف العدوان وفكّ الحصار مع ضربات روتينية للمواقع العسكرية والحيوية في الجنوب السعودي، وتثبيت متكرّر لمعادلة ردع تحمي سماء العاصمة من أيّ غارات، كانت وصلت إلى أكثر من 1418 غارة من أصل 22,701، أسفرت عن استشهاد 8759 يمنياً ويمنية. أثبتت القوة الصاروخية اليمنية والسلاح المُسيّر فعاليّتهما في رسم انخفاض مستمرّ في عدد الغارات، ومعه عدد الضحايا؛ فمنذ عام 2017، انخفض عدد الشهداء من 1421 شهيداً وشهيدة إلى 1186 في عام 2018، ومع بداية عمليات «توازن الردع»، انخفض دراماتيكياً ليصل إلى 364 شهيداً عام 2019، ثم 162 شهيداً عام 2020. ومع استمرار العدوان، لا يمكن سوى استشراف استمرار العمليات اليمنية على الداخل السعودي، «في إطار الردّ الطبيعي والمشروع على استمرار العدوان والحصار على بلدِنا»، كما يختم العميد يحيى سريع بياناته، وهو ذاته صاحب الأبيات الشعرية التي ينشدها اليمنيون كزوامل «ردّ اليماني اليوم واضح والمُسيّر قد حضر… تصعيد بالتصعيد ما يمكن نذل ونحتقر».

 

(15)

الأقسام: المراسل العام,صحافة وترجمات