سالمين… “الزعيم الأسطورة”

عبير بدر

يعجز القلم عن الكتابة عن رجل بحجم وطن، كانت مقولاته بحجم وطن، وكلّ عمل منفرد من أعماله بحجم وطن. لم أجد من يرى في نفسه التمّكن من إعطاء سالمين حقّه، قال لي أكثر من شخص، ممّن عرفه وعمل معه، “سيكون ذنباً فوق استطاعة التحمّل، سيكون ظلماً لسالمين إذا لم نوفّيه حقّه بعد كلّ هذا الصمت”. قرّرت جمع شهادات من عاش عهده، لنغوص في ذكرى فقدانه، بحثاً عن اليمن المسلوب من أفئدتنا، الغارق في بحر الأحقاد والدماء، ولنحيي وطنيّته، وحدويّته، إنسانيّته، تسامحه… عرفاناً لمن أحياها فينا، ذات عهد.
الحازم المتواضع
سالـم ربيّع علي الملقّب بـ”سالمين” (1935- 1978) الثائر البطل ضدّ الإحتلال، والزعيم الحاسم ضدّ الفساد، أطلق الروس عليه “ثعلب الصحراء”، وأطلق عليه أبناء بلده “المعلّم”. كان ذكيّاً، شجاعاً، مثابراً، حكيماً، رجل الدولة الشديد، وابن المجتمع الرحيم.
كان رجل الإنسانية بسيطاً متواضعاً، لا يحبّ المراسم ولا البروتكولات المعقّدة، يبدأ يومه مبكّراً، قبل السادسة صباحاً، بزيارات ميدانية للمزارع والحقول، وموانئ الصيد، ثمّ يتّجه للرئاسة، “يقف عند البوّابة وينظر إلى ساعته، وعند التاسعة يبدأ بمنع الموظفين المتأخّرين من دخول الرئاسة… كان يشرف هو بنفسه على انتظام الموظّفين في أعمالهم”، كما يقول فوّاز باعوم، نجل الزعيم الحراكي وصديق سالمين، حسن باعوم.
سألت فوّاز إن كان مهتمّاً بمساعدتي في الكتابة عن سالمين، فجاءت إجابته سريعاً: “ومن لا يحبّ سالمين؟!!”. يستذكر الشاب أنّه “رحمه الله كان يتّصل بالوالد أحياناً بعد منتصف الليل، يخبره أنّه سيمرّ عليه، ويخرجا لتفقّد الصيّادين في عدن، في صيرة، وبعض المناطق الأخرى”.
كثيرة هي الحكايات عن تواضع سالمين وبساطته، والتي لا تكاد تنتهي لدى كلّ من عاش عهده، فعلى كلّ شبر من أرض اليمن مشى، وتحدّث إلى الناس، وزار المرضى في المستشفيات، وتفقّد التلاميذ في المدارس، ودخل الأسواق والمصانع، وحمل شتلات الزرع ليغرسها بيديه. كان يحرص على ألّا تضيع أمور رعيّته بين تقارير موظّفيه، ويكاد المرء لا يعود بسؤاله خائباً حين يسأل البسطاء إن كان ثمّة موقف على الأقل جمعهم بالرئيس المحبوب، جميع من عاش عهده يخبرك أنّه رأى سالمين وسمع صوته بشكل مباشر، وجميعهم يسردون حكايا تبسّمه للكادحين وتشجيعه لهم، كما يتذكّرون جيّداً قرار إقالته المباشرة لمدير مخزن الغذاء الذي ثبتت عليه سرقة “قارورة زيت” من المال العام.
يخبرنا هنا باعوم أن سالمين “كان يأتي إلى منزل الوالد في محافظة لحج، يقف عند الباب وينادي عليه بنفسه، لم يكن يخرج بمرافقين دائماً، كان يحبّ أن يمشي مع أصدقائه، وكان معروفاً عنه في المكلّا تحديداً، رحمه الله، أنّه يجلس في المقهى ويلعب الدمنة وهي لعبة شعبية، كان يلعبها مع عامّة الناس وبدون تكلّف”.
روح مسؤولة
لم يكن سالمين كاملاً مثاليّاً، لكن اكتماله البشري في عيون من حوله تجسّد من خلال شعوره بالتقصير، رغم كلّ ما يبذله من مجهود، كان يرى أنّه لا يزال هناك الكثير للقيام به، كشأن أصحاب الرسالات، ولأنّه عظيم فقد كان كلّ من حوله يشعر بالعظمة أيضاً، كانوا يثقون به حين يخبرهم بقدرتهم على إحداث المعجزة، بدءاً بالصيّاد الكادح، وانتهاءاً بالمسؤول الكادح أيضاً، كان على الجميع الكدّ، ليحصد الجميع المعجزة، “استقلال الوطن في قراره واستغنائه عن المعونات”، كانت رسالته عظيمة بعظمة وطن.
المستشار الإقتصادي في مكتب الرئاسة، عبد العزيز الترب، يخبرنا أن “سالمين لم يكن رجلاً عاديّاً، ولا زعيماً عاديّاً، كان يتمتّع بحضور قوي مؤثّر، هو صانع التنمية، والتحوّلات الزراعية، وفي الثروة السمكية، سالمين كان رائد التنمية البشرية، اهتمّ بالإنسان وتعليمه، وفي عهده تمّ إرسال العديد من المجاميع الطلابية للدراسة الجامعية في الخارج، وفي سنوات حكمة القليلة، تمّ تأسيس الجامعة في عدن”.
في عهده تحرّر الإقتصاد من التبعية الأجنبية، حيث تمّ تأميم الشركات الأجنبية بموجب قانون التأميم رقم 37، لعام 1969، في27 نوفمبر، وتمّ إعداد أوّل خطّة اقتصادية سمّيت “الخطّة الثلاثية”، وتمّ إنشاء المؤسّسة الإقتصادية للقطاع العام، وتمّ إحصاء أوّل تعداد سكاني، وفي عهده صدر أوّل دستور، ووُحّدت فصائل العمل السياسي في التنظيم السياسي الموحّد للجبهة القومية، وأُصدر قانون محو الأمية، وقانون الأسرة، وقانون تأميم المساكن (1973)، وأصدر قانون خاصّ بالإصلاح الزراعي، فتطوّرت الزراعة ودخلت وسائل حديثة في الريّ، وفي عهده استطاعت اليمن تصدير منتجات زراعية، بل وتفوّقت في هذا المجال، وعلى رأس تلك المنتجات القطن طويل التيلة الممتاز (الذهب الأبيض)، والموز أبو نقطة، والمانجا، وأنواع أخرى من الفاكهة، وفي عهده أجريت البداية الأولى في التنقيب، كما أجريت أولى الخطوات العملية الجادّة لتحقيق الوحدة اليمنية.
يتذكّر الترب أنّه “كان يمكن لليمن أن تتوحّد في أكتوبر 1977، في زيارة تاريخية قام بها الشهيد سالمين للشهيد إبراهيم الحمدي، إلّا أن اغتيال الأخير في11 أكتوبر77، واغتيال الأوّل في يونيو 78، أجّلت الوحدة إلى مايو 90”.
حتّى رفاق سالمين الذين أسقطوا ورقته ذات خريف اعترفوا بخطأهم وسوء تقديرهم

المُعلّم
كان الجزء “المُعلّم” في حياة الرجل صاحب الرسالة، أصيلاً، متزامناً مع كل نشاط حياتي يقوم به. تذكر لي إحدى النسوة أنّها رأت الزعيم سالمين في سوق الخضار في المعلّا، في عدن، تقول “كان يسأل الناس عن الأسعار، ويتأكّد إن كانت أسعار السلع الغذائية المدعومة من الحكومة تتماشى مع قدرة الناس، وإن كانت الأمور بعيدة عن التلاعب، كان يردّد دائماً أن مصلحة الناس أمانة، ليتعلّم منه الوزير والغفير معنى المسؤولية”.
لا يعلم أحد سبب شيوع اعتماد الـ”الروتي” والفاصوليا، كوجبة للعشاء في المحافظات الجنوبية، وهل “كان يتناولها سالمين في المطاعم الشعبية لأنّها وجبة عامّة الشعب، أم يتناولها الشعب لأن زعيمهم المحبوب كان ينهي يومه في حضرتها”.
ولأن الدرس الأهم من كل ّهذا وذاك، والغاية السامية من بين كلّ الغايات، هي تعليم وتربية النفس على العزّة والكرامة، فقد كان “للمعلّم” في ذلك بصمة، عبّر عنها أستاذ الفلسفة في جامعة عدن، سامي عطا، قائلاً: “كان الشهيد سالم ربيع علي زعيماً محبوباً، عاش فقيراً ومات فقيراً، ولذلك كان مُعلّماً، فمات غنّياً بحبّ الناس وأحترامهم وتقديرهم”. ولأن المُعلّم صاحب الرسالة هو من يؤسّس المعلّمين من بعده، فقد رسخت كلمة سالمين في ذهن الصبي ليأتي اليوم الذي يردّدها هو لطلّابه في الجامعة”. ويضيف عطا: “رأيت سالمين، لا، بل صافحته أيضاً، كنت في الرابعة عشرة، وكنت ضمن قلّة من تلاميذ المدرسة البروليتاريا (مدرسة داخلية)، لا زال صوته وهو يقول مقولته الشهيرة والأثيرة إلى نفسي يتردّد في أذني، حتّى اللحظة، (إن مجتمعنا المتخلّف، والذي لم تمسّه حركة التطوّر في العهد الإستعماري، أشبه ما يكون بقطعة من القماش ناصعة البياض، تنتظر من يرسم عليها منظراً للوحة ما، فإمّا أن تكون تلك اللوحة جميلة، وإما أن تكون بشعة، إنّها مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية)”.
سالمين الرحيم
عُرف عن سالمين عطفه وحنانه. هذا الجانب الإنساني الناضج أحاط المرأة والطفل في عهده بالأمان. فهو أوّل من وضع قانوناً خاصّاً بالأسرة. تبكي النساء، خاصّة في عدن، حين تتذكّر حماية سالمين لهنّ، كان يدافع عن ميراثهنّ، عن حضانتهنّ لأطفالهن. قانونه الأسريّ أعطى المرأة، أمّاً كانت أو بنتاً، أختاً أو زوجة، الحقّ في أن تكون زهرة البيت المدلّلة، منحها حقّ التعليم، كان يستثمر كلّ المناسبات ليشجعهنّ بعبارته الموجزة “إتعلموا يا بناتي”، وحين يعلم بوجود أب يمنع بناته من الذهاب للمدرسة، امتثالاً لعادات وتقاليد بالية، كان يذهب بنفسه ليقنعه بالإمتثال لصوت الضمير، كان يقول للرجال إن “الرجل سلاحه يده، لكن المرأة سلاحها بتعليمها وشهادتها”، وكان يردّد أن “بناتنا لازم نأمنهن بالعلم”، في هذا الجانب، لسالمين العديد من الذكريات المحفورة في ذاكرة قلوب كلّ النساء.
تؤكّد رئيسة “متحف البيت اليمني للموروث الشعبي”، نجلاء شمسان، أن “القائد العظيم، الذي لم تنجب اليمن مثله، كان حنوناً وعطوفاً مرتبطاً بأسرته رغم مشاغله المتعدّدة، ورغم كونه زعيماً جماهيريّاً، ورجلاً شجاعاً، ومناضلاً مقداماً، ومجازفاً مغواراً، لم تتلطّخ يده بالدماء، ولم يغامر بالناس، كان قائداً، نعم، لكن بلا مغامرات ولا عنتريّات ولا استعراضات”.
وتتذكّر شمسان الرجل الذي رافقته في مسيرة الكفاح مع الشعب ومن أجل الشعب، قائلةً “عاش في جغرافيا اليمن طولاً وعرضاً، وكان يتمتّع بطاقة وإرادة جبارة، يعمل ليلاً نهاراً، كلّ همّه الناس والوطن، لم يفكّر يوماً بذاته، لذلك، حين رحل، لم يخلّف شيئاً وراءه، لكنّه ورّث لأسرته احترام الناس لهم”.
كان يحبّ مجالسة الكادحين، من الصيّادين والفلّاحين والعمّال، وكان يفرح حين يسمع شعارات تشير إلى محبّة البسطاء له، من قبيل “سالمين أنت حبيب الكادحين”، وكان معروفاً أنّه “قبيلة من لا قبيلة له”.
ربّما لا يعرف الناس كثيراً عن السياسي سالمين، وعما كان يجري في دهاليز السياسة حينذاك، لكنّهم بلا شك عرفوا سالمين الأب والأخ والإبن، “أحياناً كثيرة كان يأخذ درّاجته الشهيرة أو سيّارته الخاصّة، ولا تعرف الحراسة أين سيذهب، يحاولون أن يعرفوا خطط سيره فيشير إليهم بحركة من يده فيتركونه، ولا يعلمون بموقعه، إلّا عندما تأتيهم إشارة، أو مكالمة، أنّه الآن في الحصن أو في زنجبار أو في المسيمير، كان يطيب له في هذه القرى والمدن الثلاث أن يرقص مع الناس رقصاتهم الشعبية “الرزحة” و”الدحيف”، في مناسباتهم الشعبية”.
وفي التسامح، كان سالمين مدرسة، كان يمنح الفرصة ليدافع المخطئ عن نفسه مهما أغضبه. لقد أقرّ حكماً بالإعدام على مواطن، وفي إحدى المزارع القريبة من فندق عدن، تفاجأ بامرأة تبكي وتستحلفه بالله أن يعفو عن إبنها الوحيد، معترفة بخطأ ابنها ومتعهّدة بعدم تكراره للخطأ، فعفى عنه، “كان سالمين يكتفي بأن يعترف المذنب بذنبه، ويتعهّد المخطئ بعدم تكرار الخطأ، وكانت تأسر قلبه كلمة الحقّ التي تقال في حضرته دون رياء”.
الحديث عن سالمين لا ينتهي، كان “الزعيم الأسطورة”، لم يدّخر سالمين جهداً في رعاية رعيّته، رحل وشعبه راض عنه، حتّى رفاقه الذين أسقطوا ورقته ذات خريف، اعترفوا بسوء تقديرهم، اعترفوا بخطأهم، وربّما كان قد سامحهم

(723)

الأقسام: آراء