قليل كلام عن بعض مما فاتني

عمرو حمزاوي

 

سجلت كثيرا (آنذاك كتابة في صحيفة الوطن المصرية وقولا في قنوات تلفزيونية متنوعة) أن المطلب الديمقراطي المتمثل في الدعوة إلى إجراء انتخابات رئاسية مبكرة يتناقض جذريا مع استدعاء النخب العلمانية للمؤسسة العسكرية للتدخل في السياسة والاستقواء بها للتخلص القسري من رئيس منتخب أصدر إعلانا دستوريا استبدادي الطابع وفشل في صناعة توافق وطني. أيدت المطلب، ورفضت الاستدعاء.
اليوم، أسجل أن الدعوة إلى إجراء انتخابات رئاسية مبكرة في بلد تعثر تحوله الديمقراطي بعد الثورة الشعبية في 2011 وهدد به خطر عودة السلطوية الحياة السياسية وتواصل غياب التوازن عن علاقاته المدنية-العسكرية ما كان لها إلا أن ترتب تعطيلا شاملا للتحول الديمقراطي، وخروجا على آلياته، وتمكينا للمؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية من السيطرة على شؤون الحكم وإماتة الحياة السياسية بمضامينها التعددية وقمع المعارضين دون هوادة.
خلال السنوات الثلاث الماضية، رفض عقلي بإصرار التخلي عن الخط الفاصل بين مطلب الانتخابات الرئاسية المبكرة الذي عبر عن رغبة قطاعات شعبية مؤثرة في الإنهاء الديمقراطي لإدارة الرئيس السابق محمد مرسي بسبب تراكم الخطايا والأخطاء وحمل الناس إلى الميادين والشوارع في حزيران/يونيو 2013 وبين استدعاء المؤسسة العسكرية لعزل رئيس منتخب (كنت من معارضيه) وتعطيل العمل بدستور وافقت عليه الأغلبية في استفتاء شعبي (كنت به بين صفوف الأقلية الرافضة) وإعادة البلاد بمعايير التحول الديمقراطي إلى خانات اللاشيء.
أصر عقلي طويلا على أن ديمقراطية المطلب خانتها سلطوية الاستدعاء، وعلى أن الشرعية الأخلاقية والمجتمعية والسياسية للرغبة الشعبية في العودة إلى صندوق الانتخابات لإيجاد بديل ديمقراطي لرئاسة كانت تخفق نحرها في 3 تموز/يوليو 2013 التذرع بها للخروج على كافة الآليات الديمقراطية واستغلالها لإعادة سيطرة المكون العسكري-الأمني على الحكم.
أصر عقلي طويلا على تجاهل أن تحولا ديمقراطيا تعثر منذ 2011 ما كان له أن يتحمل الضربات المتتالية والمتسارعة باتجاه المؤسسات التشريعية والتنفيذية المنتخبة، من حل البرلمان المنتخب في صيف 2012 إلى إنهاء الرئاسة المنتخبة في صيف 2013.
بين 2011 و2013، لم تستجب لا النخب العلمانية ولا قوى اليمين الديني (إخوانية وسلفية وغيرها) بجدية إلى المقتضيات الكبرى للتحول الديمقراطي في مصر. أخفقوا في صناعة توافق وطني حول مسارات التحول الدستورية والسياسية، وحول توقيتات عملياته الانتخابية التي وإن استحال اختزال الديمقراطية إليها ظلت أساسية لبناء مؤسسات حكم ما بعد 2011 وإكسابها شرعية القبول الشعبي. أخفقوا في الاضطلاع بإدارة رشيدة للملفات المعقدة للعلاقات المدنية-العسكرية بغية الاستعادة التدريجية لتوازنها، وإعادة تعريف أدوار المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية كفاعلين لا يسيطرون على شؤون الحكم وليست لهم وضعية استثنائية ويخضعون لرقابة السلطات المدنية المنتخبة. بل أحالت النخب العلمانية وقوى اليمين الديني، باستثناءات محدودة، ملفات العلاقات المدنية-العسكرية إلى خانات المسكوت عنه وتسابقت فيما بينها على الاقتراب من المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية بحثا عن دعم أو تحالف أو استقواء. أخفقوا أيضا في الالتفات إلى مطالب الناس المشروعة إن لجهة تحسين الظروف المعيشية والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية أو فيما ارتبط بالتأسيس الدستوري والقانوني الصلب لمواطنة الحقوق المتساوية ومناهضة التمييز والطائفية والانتصار مجتمعيا وسياسيا لرؤية جديدة لمصر متسامحة وتعددية وحرة.
ولأن الإخفاق الشامل للنخب العلمانية وقوى اليمين الديني في الاستجابة لمقتضيات التحول الديمقراطي بين 2011 و2013 قلل كثيرا من فرص نجاحه ولأن الإخفاق هذا قابله تحفز وجهوزية المؤسسة العسكرية والأجهزة الأمنية والمصالح الاقتصادية والمالية المتحالفة معهم والأطراف الإقليمية الداعمة لهم للانقضاض عليه، ما كان لمسارات التحول الديمقراطي أن تتحمل في 2013 هدم المؤسسة المنتخبة المتبقية (الرئاسة) مهما تصدر المطلب الديمقراطي «الانتخابات الرئاسية المبكرة» الواجهة آنذاك ومهما سعى نفر قليل كنت منه إلى جر الخطوط الفاصلة بين تأييد المطلب ورفض استدعاء المؤسسة العسكرية للتدخل في السياسة.
وما كان لمن أرادوا إعادة الاستبداد إلى مصر وراموا طي صفحة ربيع الديمقراطية العربي في البلد صاحب الكثافة السكانية الأكبر، بل وأصروا على إجبار أغلبية شعبية بحثت عن حلم الخلاص من الاستبداد في 2011 على الاعتذار في 2013 عن بحثها والتنكر لحلمها وقلب الخلاص رأسا على عقب بالترويج لاستبداد جديد ولمظالم وانتهاكات غير مسبوقة كإنقاذ للوطن، ما كان لهم أن يضيعوا فرصة ذهبية سنحت.
اليوم، دون تنصل من التقييم السلبي لإدارة الرئيس السابق محمد مرسي ومن غير ابتعاد عن تقرير الجوهر الديمقراطي لمطلب الانتخابات الرئاسية المبكرة، أسجل أن توقع إمكانية النجاة بالتحول الديمقراطي بعد 30 حزيران/يونيو 2013 مثل خطأ فادحا. كان ذلك، دون ادعاء أهمية سياسية لدوري الذي لم يتجاوز أبدا حدود الفاعل الصغير والأكاديمي الذي وجد نفسه دوما (أيضا داخل جبهة الإنقاذ الوطني) على خلاف مع النخب والقوى المؤثرة، من بعض ما فاتني.

نقلا عن القدس العرب| كاتب وأكاديمي مصري

(67)

الأقسام: آراء