أين عالمنا العربي من صراع حضارات اليوم وأين موقع القومية؟

د. عبد الحي زلوم
في كثير من تعليقات الاخوة والاخوات من المعلقين ما ينمُ ّعن ثقافة عالية وما يثري موضوع المقال بل وما يدعو إلى عصف فكري كتعليق الأخ عيسى على مقالي بتاريخ 15/4/2016 وعنوانه “اشلاء الهوية الوطنية تتهاوى مع انهيار دويلات سايكس بيكو وهذا مختصر لتعليقه:
“عزيزنا الكاتب الكريم استشف من هذا المقال وبعض المقالات التي سبقته ان قلمك يتجه ضد القومية فالسؤال هو… هل انتقادك للقومية مبني على الفكرة كفكرة ام على الظروف التي نشات فيها …؟ في حين انك تطرح التعاطف مع فكرة الخلافة الاسلامية في اكثر من صورة مرورا بالعثمانية واحيانا بفكره الاخوان في السلطة.. فهلا تحدد لنا اي طريقة حكم تناسبنا … .. واي فكرة من الافكار الاسلامية تستهويك … الى اخره ” إذن هناك سؤالين: الأول موقفي من القومية و الثاني لاي التيارات الاسلامية انتمي. ولا أجد مشكلة في الاجابة على السؤالين .
إذا كان السؤال إلى أي حزب أو تنظيم انتمي أبدأ بالاجابة فاقول أني لا ولم انتمي في حياتي إلى أي حزب أو تنظيم . ومع أن بدايات الخمسينات من القرن العشرين كانت فترة نشاط حزبي محموم خصوصاً لطلاب المرحلة الثانوية التي كنت فيها، إلا أني أصبحت على إطلاع بالتيارات التي كانت سائدة تلك لكني لم أنتمِ إلى أي منها وغادرت إلى الولايات المتحدة للدراسة الجامعية الاولى في الهندسة سنة 1954 وكنت في نهاية السنة السابعة عشر من عمري. ولقد عشت في الولايات المتحدة و أوروبا وأفريقيا و اسيا وشاهدت الأنظمة السائدة في زمني كلها. بل قبل إرسال وَلَدَيّ للجامعة في الولايات المتحدة قمت مع عائلتي بزيارة الاتحاد السوفيتي سنة 1980 لارى ويروا النظام الأخر السائد في العالم انذاك. اختصر واقول أن قناعتي قد تطورت مع الأيام وكانت نتيجة خبرتي وتجاربي الشخصية أكثر من نصف قرن في عالم النفط في الولايات المتحدة و أوروبا والخليخ بل و الصين حيث شاهدت وراء الكواليس ما لم يراه الكثيرون . هذا عن انتمائي الفكري.
بالنسبة لموقفي من القومية فانا لا أنكرها فهي حقيقة تاريخية وجغرافية وثقافية . وكما كتب المعلق السيد عيسى قال تعالى ” وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) ” لكنه أضاف: ” إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ” ولم يقول إن أكرمكم من هو من قبيلتكم. لكن القومية ليست ايدولوجية جامعة لوحدها. كان في الاتحاد السوفيتي قوميات عدة لكن ما كان يجمعهم هو الايدولوجية الشيوعية وعندما ذَهَبتْ تلك الأيدولوجية ذهب معها الاتحاد السوفيتي. كانت الدولة الاسلامية العثمانية تحتوي على قوميات مختلفة كان يجمعها الاسلام فلما ذهب ذهبت معه الدولة . الولايات المتحدة بها قوميات متعددة لكن ما يجمعها تظام رأسمالي نشأ مع نشوء الثورة البروتستانتية التي أخذت جذورها من اليهودية فلازمت الثقافة اليهوبرتستنتية الرأسمالية بالرغم من تعدد القوميات . حركة الناصرية كان لها ايدولوجية إشتراكية فلما ذهبت بالانفتاح ذهبت الناصرية معها. ملخص القول أن القومية وحدها لا تصلح كايديولوجية جامعة وحالنا اليوم في ما يسمى العالم العربي أكبر دليل على ذلك.
طبقاً لما يقوله هنتنغتون، فإن التنافس بين القوى العظمى سيزول ليحل محله صراع الحضارات وستصبح السياسات المحلية سياسة عرقيات، بينما ستمسي السياسات الدولية سياسة حضارات. هناك اليوم ثلاث حضارات لكل منها نظامه السياسي والاجتماعي وهم الحضارة الرأسمالية وتقودها الولايات المتحدة بمفهومها اليهوبروتستانتي والحضارة الشيوعية والحضارة الاسلامية . ولقد قال المحافظون الجدد في بداية ما أسموه الحرب على الارهاب أنها حرب حضارية ستستغرق أجيالاً (generational war). بل وأسماها جيمس وولسي رئيس سابق لـCIAبانها الحرب العالمية الرابعة بإعتبار الحرب الباردة كانت الحرب العالمية الثالثة .
بالنسبة إلى الحضارة الاسلامية فاني أرى أن أفضل من فسرها لم يكن واعظاً من وعاظ السلاطين إنما راهبة سابقة جاءت من دير بعد عشرين سنة لتصبح كاتبة من أفضل من كَتبَ عن الاسلام ونَبَيه في عدة كتب. إنها كارين ارمسترونغ والتي كتبت في كتابها المعنون »الإسلام«، كيف أن الإسلام يختلف عن غيره من الأديان, في كونه عقيدة وأسلوب حياة في الوقت ذاته. وفي ذلك كتبت آرمسترونغ – تقول: »في الغرب المعاصر اعتدنا على التفريق بين الدين والسياسة، أما في الإسلام فالأمر مختلف، حيث يطلب الإسلام من معتنقيه البحث عن الله في التاريخ. فالكتاب المقدس عند المسلمين، وهو القرآن، يحمل أتباعه مهمة تاريخية، حيث يتمثل واجبهم الرئيسي في إقامة مجتمع العدل والمساواة،حيث الجميع بمن فيهم الأضعف والأفقر، يحظى بالاحترام التام. وتتيح تجربة بناء هذا النوع من المجتمع والعيش لأفراده الفرصة للتنعم بحميمية السماء، في ظل القناعة بأنهم إنما يعيشون طبقًا لإرادة الخالق ومشيئته. فالمسلم مطالب بتجديد التاريخ، وهذا يعني بأن لإدارة شؤون الدول جانبها الروحي، وهي جزء لا يتجزأ من الدين نفسه« وتضيف آرمسترونغ: »في حالة فشل مؤسسات الدولة في الارتقاء إلى مستوى المفهوم القرآني، وإذا ما أظهر القادة السياسيون غلظة في الحكم وميلاً لاستغلال المنصب، أو في حالة تعرض رعاياهم للإذلال على يد أعداء الدين، فإن المسلم عندها سيشعر بأن معتقداته وهدفه الأسمى في الحياة وهما عبادة الله وإعمار الأرض، أصبحت عرضة للخطر… وعليه، فإن السياسة في نظر الإسلام – أو ما يطلق عليه المسيحيون السر المقدس – هي مجال يتيح للمسلم التعرف أكثر على الله، ويتيح للسماء تسيير شؤون العالم طبقًا للرؤية الإلهية«.
وأجرت منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (Organization for Economic Co-operation and Development – OECD) دراسة عن النظام الاقتصادي في الاسلام وكيف يتميز عن الرأسمالية والشيوعية. وجاء في التقرير : (ان التعاليم الاسلامية تختلف عن الرأسمالية لمعارضتها تراكم الثروات الفاحش ، وتختلف عن الاشتراكية لانها تحافظ على حقوق التملك لوسائل الانتاج . ففي مجتمع حقيقي يتبع تعاليم الاسلام يجب الاّ تتعارض مصالح طبقات المجتمع ، بل يجب ان تتعايش بالتواصل والتراحم عبر المشاركة المسؤولية الواعية . كما يجب مراعاة حقوق الفرد ولكن بطريقة عادلة تتوازن مع مصلحة المجتمع بأكمله) . ولكن تعطيل باب الاجتهاد منذ قديم الزمان كان تعطيلاً للعقل ودوره …. فبدأت الهوّة تتسع بين مبادئ الفكر السامي ووسائل العصر اللازمة لتطبيقه فنشأ عن ذلك شيزوفرانيا بين علوّ الفكر وانحطاط الاساليب. وبقيت وسائل ذلك الفكر والحضارة العظيمة في ثلاجة الزمن البعيد، بينما تقود المبادئ المادية العنصرية الخرقاء مركبة فضاء.
أما عن الظلم الاجتماعي والاقتصادي للرأسمالية فحدث ولا حرج وهي في جوهرها تتعارض مع كل الاديان. مثالاً على ذلك ما كتبه الدكتور ديل أركر Dale Archer في مقالين في مجلة فوربس Forbes الامريكية المحافظة بعنوان :” فروقات الثروة: هل ستقود الى ثورة ؟” ومجلة فوربس ليست مجلة يسارية ولا ثورية بل محافظة تملكها احدى أغنى العائلات الامريكية. جاء في المقال الاول بتاريخ 4/9/2013 :
” كل الكلام عن تفاوت الثروة في السنتين الاخيرتين يستحضر السؤال : هل ستقود فروقات الثروة هذه الى ثورة ؟… ان اغنى واحد بالمئة يمتلكون 40 بالمئة من ثروة الامة المقدرة بـ 54 تريليون دولار. هذا يترك فقط 7 بالمئة لثمانين بالمئة من المواطنين . ولنضعها بشكل آخر فإن اغنى 400 امريكي يمتلكون أكثر من ما يمتلكه 150 مليون امريكي أي أكثر من نصف سكان الولايات المتحدة …”
ويضيف في مقاله الثاني بتاريخ 11/9/2013 :” يعيش 47 مليون أمريكي على اعانات الدولة للحصول على الاكل (Food Stamps) وحسب احصائيات وزارة الزراعة الاخيرة فإن 15 بالمئة من الشعب الامريكي يمكن اعتبارهم غير واثقين من أين سيحصلون على وجبة غذائهم التالية …. ولدولة من مصاف الدول المتقدمة فهذا رقم مخيف.” هل هذه هي الحضارة التي نتوخاها ؟
لو قلنا عن نظام الحكم إن الولايات المتحدة قد أصبحت أكبر دولة بوليسية في العالم لقامت قائمة أنصارها ولم تقعد، لكن هذا ما أوحت به كبريات الجرائد الامريكية “الواشنطن بوست” في تحقيق صحفي عبر ثلاث مقالات استغرق تحضيرها سنتان وعمل خلالها (20) من كبار صحافييها . كانت المقالة الاولى بتاريخ 19/7/2010 والتي جاء فيها:
هناك (1271) مؤسسة حكومية تساعدها (1931) شركة تخدمها ضمن أجهزة الاستخبارات ، والأمن الداخلي ومكافحة الارهاب .
وهناك 854000 شخص ضمن هذه الاجهزة ممن يحملون تصاريح بالاطلاع على التقارير ” سرّي جدّاً ” وهذا العدد يزيد مرّة ونصف عن عدد سكان العاصمة واشنطن !
هناك 33 مركزاً في واشنطن لوحدها مخصصة لاعمال المخابرات السرّية جداً مساحة أبنيتها تعادل 17 مليون قدم مربع (حوالي 1.7مليون متر مربع)
وصل هذا التحقيق الصحفي إلى أن “سلطة رابعة قد نشأت وهي مُغيّبة تماماً عن أعين الشعب الرقابية بستار من السرية الفائقة … لقد أصبحت كبيرة جداً ، وحدود مسؤولياتها ضبابية. بحيث أن قادة الولايات المتحدة لا يمسكون بزمامها…”
إذا كان هناك ثلاث حضارات، إنهارت احدها )الشيوعية) وثانيها )الرأسمالية( تترنح حسب وصف البرفسور لستر سي ثورو كما جاء في كتابه: مستقبل الرأسمالية (1997):
“إن الأنظمة المنافسة للنظام الرأسمالي من فاشية واشتراكية وشيوعية قد انهارت جميعها . ولكن ، بالرغم من أن المنافسين قد أصبحوا طي الكتمان في كتب التاريخ فإن شيئاً ما يبدو وكأنه يهز أركان النظام الرأسمالي نفسه “.
جاء في خطاب البابا فرنسيس بتاريخ 9/7/2015 في سانتا كروز ، بوليفيا، أمام حشدٍ من المنظمات الشعبية حيث أعلن البابا الحرب على النظام الرأسمالي المتوحش وعربته التي تقوده باسم العولمة وأعلن أن هذا النظام لم يعد يعمل وعلينا تغييره. يقول البابا :” نحن بحاجة إلى التغيير، بل نحن نريد التغيير بل أنا أصر أن نقولها بدون خوف وبأعلى صوت: نريد تغييراً حقيقياً في هيكلية النظام الحالي . إن النظام الحالي أصبح لا يطاق . نحن بحاجة إلى تغيير النظام على مستوى العالم حيث أن الترابط بين الشعوب في عصر
العولمة بحاجة إلى حلول عالمية. يجب عولمة الأمل الذي ينبع من داخل الشعوب والذي يقول لا للتهميش”!. أليس هذا دعوة للثورة على هذا النظام البائس ؟ ولكن ما هو البديل الذي يقترحه هذا البابا الثائر والذي نعته ابواق الاعلام اليهوبرتستنتي الصهيوني بالماركسي .
يقول البابا أنه لا يمتلك وصفة سحرية لكن الحل يجب إن يكون نابعاً من الجماهير والشعوب. وأن هناك خطوطٌ عريضة يجب للنظام الجديد أن يتبعها . أول هذه الخطوط العريضة يكمن في تغيير الاقتصاد الرأسمالي الحالي ليصبح المال في الاقتصاد الجديد في خدمة الشعب لا أن يكون الشعب في خدمة المال . وثاني هذه الخطوط العريضة للمجتمع الجديد أن يصبح مجتمعاً قائماً على العدل تتم المحافظة فيه على كرامة الانسان ويتم تأمين الجميع بحق التعليم والرعاية الصحية . يقول البابا: مثل هذا النظام ليس مرغوباً به فقط بل هو من الضروريات. وأما الخط الثالث العريض الذي يجب تحقيقه فهو حق الشعوب في السيادة على أوطانها . وهنا أتساءل: أليس ما يطالب به البابا هو ايضاً من صلب النظام الاقتصادي والنظام الاجتماعي في الإسلام؟ أليس في ذلك ما يكفي من قواسم مشتركة، كل على طريقته حسب قوله تعالى ” لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ ” ليتحد 1.5 مليار مسلم مع 1.2 مليار من أتباع كنيسة البابا فرنسيس لقهر ذلك النظام الصهيوني اليهوبرتستنتي و الذي نحن من أكبر ضحاياه؟
أنا لا أعرف إلا إسلاماً واحداً “لا إسلامات” أشعل نار فتنتها سلاطين اليوم والأمس. حضارة إسلامية بها كافة ما طالب به البابا من نظم إجتماعية و إقتصادية وما اطإلب به .
هذه قناعاتي التي تدرجت وتطورت خلال ثمانين سنة من حياتي أؤجزها بأمانة في هذه السطور.
مستشار ومؤلف وباحث

(35)

الأقسام: آراء