توازن القوى الدولية

د.فهمي الدقاف

 

الميــزان : هذه الأداة الإلهية الفكرة، الإنسانية التصنيع ، لها دلالات متعددة تغطي مساحات واسعة في كافة المجالات: الدينية، والأخلاقية، والقانونية، والاجتماعية، والسياسية والاقتصادية ، والثقافية والعلمية والصناعية، والتجارية، والعسكرية….إلخ، من هذه الأداة اشتقت الكلمة الذهبية “التوازن”، التي تدل، هي الأخرى، على كل فعل نبيل وشريف ورفيع، يـرفع من كرامة الإنسان ويضمن له الطمأنينة، والسكينة، والسلام، ويبعد عنه كل منغصات الحياة.

ولما كان العالم يقوم في الأصل على التنازع والرغبة في الهيمنة والسيطرة وبسط النفوذ وقهر وإذلال القوي للضعيف، فإن توازن القوى الدولية هو المعادلة الذهبية أو السحرية، التي تحد من نزوع الدول القوية نحو استغلال وقهر الشعوب، وتكبح جماع شهوتها لاستباحة كرامة ودماء المقهورين، وتعمل على ضمان السلم والأمن الدوليين.

وكما هو معلوم، فقد مرت عملية توازن القوى الدولية، منذ مطلع العصر الحديث وحتى يومنا هذا، وفي مدى زمني يتجاوز القرون الأربعة، بست مراحل على النحو التالي:

  • مرحلة الاستعمار الغربي ” اختلال توازن القوى” من عام 1500م- 1917م-” 417سنة.
  • مرحلة إرهاصات توازن القوى (الاتحاد السوفيتي).

أدركت دول الغرب الاستعمارية؛ بفطرتها التاريخية لقهر الشعوب واستغلالها واستعبادها، أن الإيديولوجية الناشئة(الاشتراكية) ستكون معول هدم حقيقي لوجودها في الدول المستعمرة، وستعمل على استنهاض الشعوب المقهورة وتدفعها للتحرر من نيران الاستعمار. فوجدت ضالتها في الصحوة الإسلامية التي ظهرت في مصر في عشرينيات القرن الماضي، تحت مسمى الإخوان المسلمين، باعتبارها الإيديولوجية المناهضة للإيديولوجية الاشتراكية، فعملت على احتوائها وتغيير مسارها.

وعندما عجزت بريطانيا عن القيام بمهامها تجاه جماعة الإخوان المسلمين عهدت بها للولايات المتحدة الأمريكية، التي وجدت هي الأخرى فيها ضالتها، وازداد الأمر تعقيداً عندما تعززت علاقة أمريكا بالمملكة السعودية، وكما هو معلوم فإن الدول القوية لا تكتفي بالمصالح الاقتصادية والسياسية التي تحققها من خلال علاقتها بالدول، التي تدور في فلكها، بل تعمل من خلال أجهزة استخباراتها بدراسة البنية الثقافية والتاريخية لتلك الدول حتى تضمن بقائها واستمرارها فيها، فوجدت بُغيتها في المذهب أو الفكر الوهابي، الأكثر مغالاة في أرائه الفقهية، فأصبح لديها أيديولوجية بجناحين، الإخوان والوهابية كقوة يمكن أن تستخدم في المستقبل فأبقتهما في غرف التحنيط السياسي حتى يحين موعد استخدامها.

  • البداية الفعلية لتوازن القوى الدولية:
  • بروز الاتحاد السوفيتي كقوة في الساحة السياسية الدولية بإيديولوجية مناهضة لدول الاستعمار.
  • تشكل عصبة الأمم المتحدة، المناط بها ضمان تحقيق الأمن والسلم الدوليين عن طريق حماية سيادة واستقلال الدول الأعضاء.
  • بدء دعوات التحرر من الاستعمار والرجعية.
  • استمرار عملية توازن القوى الدولية، وفي هذه المرحلة انقسم العالم إلى معسكرين تقريباً، المعسكر الرأسمالي الاستعماري المناهض لتحرر واستقلال الشعوب، وتدور في فلكه القوى الرجعية في العالم. والمعسكر الثاني هو المعسكر الاشتراكي الداعم لقوى التحرر والاستقلال في العالم. عمل هذا المعسكر على الحد من غطرسة وتغول دول المعسكر الرأسمالي، وعلى وجه الخصوص الولايات المتحدة الأمريكية.

دخل الطرفان في حرب باردة استمرت لأكثر من عقدين، عمل كل من المعسكرين على تقليص تمدد نفوذ الأخر في العالم، ولكن الخطاب الرأسمالي كان أكثر تأثيراً في وجدان عامة شعوب العالم الثالث، وشعوب المنطقة العربية على وجه الخصوص، وتمكن المؤسسات الاستخباراتية الغربية وعلى رأسها أمريكا، من إخراج الإيديولوجية السياسية الإسلاموية (الإخوان والوهابية) من غرف التحنيط السياسي، وعملت على إحيائها واستخدامها ضد العدو الإيديولوجي (الاتحاد السوفيتي).

وعلى الرغم من التحذير الذي قدم للولايات المتحدة، من خطورة انقلاب هذا الفعل عليها، إلا أنها كان مطمئنة على نحاج مشروعها، الذي ستتمكن من خلاله القضاء على الاتحاد السوفيتي.

والباعث على اطمئنان أمريكا من عدم انقلاب الإسلام السياسي عليها، يكمن في إدراكها لجوهر التداعي الدياليكتيكي للاتجاه السياسي الإسلاموي، المتمثل في استحالة قبول الجماعات الإسلاموية لبعضها البعض ، من منطلق ( 1 من 2 / لاتجتمع لرايتان الحق) أو (1 من 70/ الفرقة الناجية) المشهورة في الفكر الإسلامي، فكان أن قدمت أمريكا الصراع السياسي الدائر بينها وبين الاتحاد السوفيتي، إلى جانب عمليات استخباراتية أخرى تنظيم القاعدة، الذي حقق النصر للغــرب في أفغانستان.

  • فقدان توازن القوى السياسية الدولية( 85-2010) : شهدت هذه المرحلة انهيار الاتحاد السوفيتي، وانتهاء الحرب الباردة، وخضوع كل العالم، لقوة وسيطرة القطب الواحد (الولايات المتحدة الأمريكية)، حيث أدخلت كل دول العالم في نظام جديد، سمي بالفعل النظام العالمي الجديد، وبرزت إلى العلن تداعيات فقدان توازن القوى، فأصبحت أمريكا هي من يضع المعاييرالأخلاقية والسياسية للعالم، وهي حامية الحرية، وهي المصدر الحصري للديمقراطية ، وهي من يقرر أي من دول العالم يحق له البقاء وأي منها يجب أن يختفي من الساحة السياسية الدولية، لقد أصبحت أمريكا، وهذا ليس بخافي على أحد، هي القاضي والجلاد في آن واحد، فما تريده أن يكون يكون وما تحلم به يتحق. الأنكى من هذا كله، أن دول الاستعمار القديم (أوروبا الغربية) أسلمت قيادها لأمريكا، وأصبحت كدول الرجعية والاستبداد في المنطقة، المفتقرة لأبسط صور القوة والتأثير، تسير خلف الولايات المتحدة ذليلة منكسرة، عديمة التأثير الجيوسياسي في العالم.

 انعكس هذا الوضع السياسي الدولي المفتقر لتوازن القوى السياسية العالمية، بظلاله على احترام المجتمع الدولي المتمثل في الأمم المتحدة ومجلس الأمن، لذاته، وأصبح فاقداً لأبسط القواعد المنظمة لوجوده وعمله، وأصبحت هيئاته ومنظماته تباع في سوق النخاسة.

  • البدايات الأولى لاستعادة توازن القوى الدولية: لقد كان لانهيار الاتحاد السوفيتي وتقطع أوصاله وخيبة أمله في تهاوي قوى النضال والتحرر في العالم المقهور، وانضواء معظم قادتها تحت لواء العدو التاريخي للشعوب، تداعيات خطيرة على مستقبل الشعوب والأمم الفقيرة، والتي ألمحنا إليها في السطور السابقة. ولكن الرصيد التاريخي والسياسي والعسكري للاتحاد السوفيتي، وتأثيره العالمي السابق، لايمكن بأي حال من الأحوال، أن يذهب هدراً ويسلب هذا المارد إرادته، ويحرمه من قوى استنهاضه، وإعادته إلى ساحة التأثير السياسي الدولية، فكان أن نهض على قيادة هذا الجزء من العالم، روسيا الاتحادية، “فلاديمير بوتين” الذي نشأ في ظل القوى العالمية الجبارة(الغرب)، وساهم في تحمل جزءً من مسؤوليات العمل فيه

وهذا القائد الروسي عاش زمن القوة والمنافسة، وشهد انهيار دولته العظيمة، ويعلم علم اليقين أسباب ذلك الانهيار ويحمل أحلام شعبه باستعادة مجده السابق، لذا وجدناه ليس من النوع، الذي يقبل الانكفاء والبقاء على هامش التأثير السياسي الدولي، ويترك المجال السياسي الدولي لغيره، يرسم خريطته ويقرر مصيره، فما كان منه إلا أن وضع اللبنات الأساسية لاستعادة توازن القوى، ويقف نداً لقوى الهيمنة العالمية(أمريكا)، ونجد تأثيره السياسي الدولي بدأ يظهر على الساحة الدولية بالتدريج، وأصبحت الساحة السياسية العالمية اليوم تتخلص من اللاعب الفرد وتستقبل لاعباً أخر فيها له مصالح يرعاها ولا يقبل من أحد تجاوزها.

هذا الوضع السياسي الجديد –توازن القوى- سيعيد كفتي الميزان إلى وضعهما الطبيعي، الذي سيؤدي في نهاية المطاف إلى إعادة الدور الريادي للأمم المتحدة، ويحررها ويحرر منظماتها من الارتهان والعجز عن أداء واجباتها المحددة في ميثاقها.

 

(523)

الأقسام: آراء