كاتب أكاديمي سوداني: لماذا فشلنا وفشل التحالف العسكري في اليمن؟!

د. مدى الفاتح

الجمع هنا مهم لأن حرب اليمن لم تكن تعني السعودية وحدها أو مجموعة الدول التي أعلنت مشاركتها رؤاها السياسية فقط، ولكنها كانت تحمل معنىً أكبر من ذلك وتهم الملايين من الذين ساندوا ذلك التدخل، رغبة منهم في وضع حد للتدخلات الإيرانية السافرة وتهديداتها المستمرة وتلاعبها بالأوراق الطائفية في المنطقة.
لقد تجاوزت في هذا المقال السؤال الذي طرح في أكثر من منبر وهو: هل نجح التدخل العسكري في اليمن؟ من أجل توفير الوقت والمساحة للاقتراب من السؤال الأهم: لماذا فشل التحالف العسكري رغم العدة والعتاد والعقيدة في مهمته في اليمن؟
الاعتراف بالفشل يحتاج شجاعة كبيرة ومن السهل دائماً تحويل الهزائم إلى انتصارات كبيرة، والحديث عن كسر شوكة الصفويين ومنع ابتلاعهم لليمن أو تقدمهم إلى مناطق أبعد في عمق الجزيرة العربية، لكن بالنظر إلى الأهداف الأولية لتلك الحرب، التي تمثلت في تدخل سريع لإعادة «الشرعية» إلى اليمن وإرجاع الحكومة المنتخبة عبر «عاصفة حازمة»، ثم الشروع في إعادة إعمار ما أفسده ذلك التدخل، عبر مخطط كبير «لإعادة الأمل»، بالنظر فقط إلى ذلك لا يمكن لأي قارئ أو متابع إلا أن يعلن في موضوعية أن أهداف التدخل السريع الحازم ضاعت وتبعثرت وأخذت وقتاً متطاولاً لم يكن أي من المتابعين أو الداعمين للمبادرة السعودية يتوقعه.
وبعد قرابة العام ونصف العام من الانغماس في الحل العسكري فإن الوضع يبدو وكأنه يراوح مكانه، فصنعاء ما تزال بأيدي الحوثيين والحكومة «الشرعية» ما تزال مغيبة، بينما يفرض المتمردون كل يوم واقعاً جديداً يظهر تحكمهم بعدد من الخيوط في الداخل اليمني، ولكن أيضاً على مستوى العلاقات الدولية حيث تبدو الجهود الأممية في كثير من الأحيان مساندة لهم أو على الأقل متعاملة معهم كشريك أصيل في العملية السياسية وهو ما منحهم بشكل ما شرعية جديدة تنافس شرعية حكام عدن العاصمة الحالية البديلة.
أما الأخبار الأخيرة عن نية الولايات المتحدة سحب فريقها من السعودية، وهو المخصص للتنسيق مع المملكة بشأن اليمن فلا تعني سوى أن الحليف التقليدي قد فضّل أن ينأى بنفسه بعد أن تطاول أمد المعالجة العربية التي تحوّلت من مجرد تدخل سريع إلى حرب استنزاف متطاولة، فبعد مرور عام ونصف العام أو أكثر لم تنته العاصفة ولم يبدأ الإعمار، بل بدأت القضية اليمنية تدخل في متاهة التفاوض التي قد تسمح بتشكيل واقع جديد على الأرض يعيد التعريفات القديمة، بما فيها تعريف الشرعية ذاته. لكل ذلك، وعوضاً عن تقديم مرافعات بلاغية حول نجاحات التحالف العربي، فإنه يجب أن نقيّم هذه التجربة بموضوعية تمنع عنا تكرار الأخطاء ذاتها في المستقبل.
لقد بدأت هذه الحرب بأهداف مزدوجة، فمن ناحية كان السياسيون يعلنون أنها لنصرة الشرعية اليمنية وكسر الأصابع الإيرانية التي تستخدم الحوثيين للسيطرة على البلاد وتنفيذ أجنداتها، أما رجال الدين الذين كان لهم دور كبير في التهيئة النفسية والمعنوية فقد كانوا يرونها حرباً طائفية، أو كما سماها أحد رموز الدعوة السلفية – الوهابية «حرب سنة وشيعة». لكن تحويل الحرب إلى حرب بين عموم السنة وطائفة الشيعة كان مغامرة خطيرة. صحيح أن السياسيين والعسكريين لم يساندوا هذا الاتجاه وأدانوا ما نتج عنه من تعدٍ على مساجد ومزارات الشيعة في الخليج، إلا أن الارتباط المعروف بين أولئك الأئمة الداعين لحرب ضد الكفار من الشيعة والأنظمة الخليجية خلق التباساً ساهم في ازدياد ضبابية الموقف. حرب بين سنة وشيعة تعني أن الطائفة المنتشرة في أكثر من بلد خليجي قد باتت مهددة، مما يعني أن عليها أن تدافع عن نفسها وأن تبحث عمن يساندها في وجه الحملة ضدها وهو ما سيعني ارتماء أو مزيداً من الارتماء في الحضن الإيراني الدافئ.
هنالك مشكلة أخرى رافقت ذلك التدخل العسكري الذي كان يفترض أن يكون على شكل غطاء جوي ومساندة لوجستية للقوات المقاومة على الأرض وهي المتعلقة بطبيعة تلك القوات، وهنا تكررت المعضلة ذاتها التي رأيناها بشكل واضح في سوريا، حيث تبين أن المقاومة الفاعلة هي في معظمها إسلامية التوجه، ما يعني أن دعمها سيصب بشكل ما في صالح مشروع الإسلام السياسي، الذي قد يسيطر لاحقاً على البلاد إذا تقوى أكثر، خاصة مع ما يحظى به من دعم شعبي. هنا كان الحلفاء العرب يحملون قراءات مختلفة، ففي حين كانت السعودية ترى في إيران مهددها الوشيك وغريمها الأوضح، كانت قيادات عربية أخرى ترى، وللغرابة، أن الجماعات الإسلامية السنية هي الخطر الأكبر، حتى صرّح أحدهم بأن انتصار إيران هو أفضل بكثير من انتصار جماعة الأخوان. كل ذلك يوضح بجلاء لماذا يبدو الانتصار صعباً، فقد كان لأصحاب الاتجاه الذي يعلن محاربته للتيارات الإسلامية بحجة محاربة الإرهاب، والذي يضع القاعدة والدولة وجماعة الأخوان وحتى بعض السلفيين الخارجين عن العباءة الرسمية في سلة واحدة، كان لهم دور أساسي في تقوية الحوثيين من أجل كسر شوكة جماعة الإصلاح وغيرها من المجموعات القريبة من جماعة الأخوان، لكن يبدو أن هذا الدور لم ينته بعد، فرغم توحش الحوثيين وتهديدهم الفعلي للمصالح الخليجية إلا أن البعض ما يزال يعتقد أنها أقرب إليهم من المنافسين الإسلاميين.
يجب أيضاً الاعتراف بأن الواقع اليمني معقد أكثر مما يبدو عليه وأن الكثيرين منا لم يكونوا يدركون حجم هذه التعقيدات، فاليمن، مثله مثل دول الهامش العربي الأخرى، لم يكن رغم أهميته التاريخية والجغرافية يثير اهتمام الباحثين أو المراقبين لولا نكبته الأخيرة.
لقد انقسم اليمن ذات يوم إلى جنوب اشتراكي معادٍ للملكيات الخليجية وشمال تسيطر عليه روح القبيلة التقليدية. بعد توحد اليمن انتهت الاشتراكية التي كان يمثلها الحزب الاشتراكي اليمني وذابت الشيوعية في اليمن كما ذابت في غيرها من بلدان العالم. المفارقة التي لا يدركها الكثيرون تكمن في أن أولئك الاشتراكيين والشيوعيين والعلمانيين كانوا حلفاء مقربين للجمهورية الإسلامية الإيرانية وهو ما يدل مرة أخرى على أن سياسة الولي الفقيه كانت براغماتية بحيث تختار الفرس الرابح على الدوام، بالأمس الاشتراكيون الذين ساندوها في حربها ضد العراق واليوم الحوثيون. وما تزال شخصيات سياسية فاعلة مقربة من طهران ومحتفظة بولائها لها وهو ما يمنح القضية اليمنية أبعاداً متشابكة مع الواقع الإقليمي تجعلها لا تنفصل عن المشروع الإيراني الممتد في العراق والشام. وإذا كان الجنوب ما يزال معقلاً لفلول الاشتراكيين المرتبطين بإيران، فإن ذلك يفسر التنسيق الذي تم بين الجانبين والذي مهد لسيطرة الحوثيين على المنطقة بيسر قبل أن يتم استرداد عدن مرة أخرى بجهود أبنائها المقاومين أولاً، ثم بدعم التحالف وإسناده.
لقد مر على استعادة العاصمة البديلة عدن أكثر من عام، ورغم هذه الفترة الطويلة فإن الأحوال بها لم تستقر بعد بشكل كامل بحيث تعود الحكومة لتنفيذ أعمالها، بسبب سلسلة الأعمال الإرهابية التي تضرب المدينة وضواحيها من حين لآخر. هذه الأعمال في حد ذاتها لغز كبير يصعب التكهن بمن يقف وراءه، كما يصعب تحليل أسباب الفشل الأمني الذي يقود إلى تكرارها مرة إثر أخرى. يقول بعض المحللين أن السبب يعود إلى استبعاد من شاركوا في تحرير المدينة وهم الأكثر خبرة بظروفها وشعابها، كما يعود إلى تصفية عدد من قيادات المقاومة الشعبية من أصحاب الانتماء الإسلامي وتصدير بعض الشخصيات السلفية المشغولة بأولوية بيان خطأ منهج الجماعات الإسلامية الأخرى. يطالب المقاومون بدمجهم في إطار المؤسسة العسكرية والأمنية الرسمية، لكن قراراً مثل هذا لا يبدو سهلاً، فإن آخر ما يريده بعض الفاعلين في القضية اليمنية هو دعم جيش تسيطر عليه خلايا أخوانية.
كأني بالمشهد الذي تابعناه في سوريا يعيد نفسه، فالخوف من تصدر الإسلاميين للمقاومة ضد نظام الأسد لم يؤد في النهاية فقط إلى سحب الدعم من أولئك، بل أدى لدعم جماعات فوضوية كالقوات العنصرية الكردية التي لا يقل مشروعها إرهاباً عن تنظيم الدولة.
لا أحد يتمنى أن يتحول اليمن إلى مستنقع كالمستنقع السوري الحافل بالتدخلات، لكن تلافي ذلك يتطلب وقفة حازمة مع النفس هذه المرة للمراجعة وللبناء بموضوعية على ما سبق.

*  كاتب سوداني

نقلا عن: القدس العربي

(2442)

الأقسام: المراسل العالمي

Tags: ,,,,,,